الشّمع، أو الإقامة في الانتظار.. نصوص إبداعيّة

 

ضمن فعاليّات مخيّم كُتاب الزيتون للكتابة الإبداعيّة بدورته الخامسة، حاول المشاركون المنضمّون للقاءاتِ الكتابة الإبداعيّة باللغة العربيّة، أن يتفاعلوا مع عملٍ إبداعيٍّ للنّحاتِ والتشكيليّ السويسريّ (Urs Fischer) أنجزه في العام 2011، باستخدام الشّمع. تأمّل المشاركون هذا العمل، عبر ثلاثِ صور التُقِطت له، من زوايًا مختلفة، وفي أوقاتٍ متباعدة. وحاولوا كتابة نصوصهم الإبداعيّة متفاعلين مع هذا العمل.

أسرة التّحرير

 

 

“مللُ الصَّلابة”

في البدء،

كان صلبًا لدرجةِ أنّ بعض المُنَقِّبين قد قدِموا إلى سفحه ليبحثوا عن المعادن في عظامه!.

كانَ الثَّورةَ وقائِدَها..

كانَ الحربَ والغازَ المُسيلَ للدموع.

لكنَّ ألْفَ شمسٍ انبثقَت؛

لِيَسيرَ معها إلى مدارِجِ الضوءِ:

هناك

على حُطامِهِ المُبَرَّرِ جِدًّا،

انتفى مِنَ الصَّلابَةِ،

وتَبَنّى هيئةً سائِلَة!

 

محمد كبداني، 26 عامًا.

 

بنظرةٍ سَمِجةٍ كانَ يلتحفُني، ينتظرُ أن أبادره الكلام. كنتُ أراوِدُ تلكَ التّنهداتِ، أُفْرغُها من كُنْهِها، ثمَّ.. أحاوِلُ التّفسير…

كانَ يراوِدُ سعمي، بالحديث والكلام:

ألم أبعث لك بثنايا أفكارٍ تختمِرُ؛ لتشتعِلَ كالنارِ في الهشيم؟

ألم أنِرْ دماغك بالهرولةِ والمضيِّ رغم عُسْرِ المسير؟

مددتُ يَدي.. آملًا.. راغبًا… أو طامعًا في تربيتةِ كتف.

لكن، بعد سكّين الصمتِ، أنا الأن في جحيمِ أمسٍ لن تردَّهُ الشّموع.

 

صلاح الدين أنامير دبيغ، 21 عامًا.

 

 

لفظَتْ الساعةُ آخِر ذراتِ رملٍ في جُعْبَتها. توقّف الزمن، انعدَمَ الوقت. كالصَّنم يحملُهُ كرسيٌ وتسندِهُ طاولة، وأمامه كوبٌ للزينة.. فقط. توقّف الزمَنُ وطواه الصّمت، ربما سكنَهُ الموتُ وغلّفهُ العدم.

مرّ الزمنُ المتوقِف. الكرسيُّ ثابثٌ، والطاولة لم تُراوِح المنتصف،

والعدم قد بلغَ منهُ ما بلغ. بِرَوِيّةٍ مميتةٍ يتلقّفه السواد، ولا يدري أموتُهُ أم سكونُهُ ما يعطِّلُ اختفاءَه.

والسواد أمامه بهدوءٍ مُميتٍ ينتظر.

لعلّ العدَمَ كانَ أرحَمَ به!

لعله اختارَ الطاولةَ هناكَ والكرسيَّ هناكَ.. في تلكَ الزاويةِ بالذّات. لعلّه لم يخترهُما!

الموت أرحَمُ به؛ الزمن المتوقِّفُ أنيسُه.

إنّه يحترِق!، الحياة عودٌ وتفاصيلُها شرارة،

وهوَ، كيف ما كان، قابلٌ للاشتِعال. ولقد اشتَعَل، ولقد احتَرَق.

لعلّه السواد، يكونُ رؤوفًا.. رحيمًا به.

 

فدوى ناني، 22 عامًا.

 

 

يذوب في انتظارِكِ. وقد ملَّ الجلوسَ، يده على طاولة الغياب كأنّه ينتظِرُ ظهورك. لا شيء يؤنسُهُ غير الفراغِ وقارورة مشاعر يتوق لشربِها في نخبِ حبّكِ البخيل.

ذاب في انتظاركِ، وانطفأت شمعة حبّك. حوّله حُبكِ لنصفِ رجُل!. ومع ذلك ما زال بابُ حضوركِ مفتوحًا أمام آماله المشتعلة!.

” لن تأتِ” قالها درويش قبلَه، لكنه لم يستمع إليه. فاحترق انتظارًا، احترق حبًا، احترق يأسًا.. لم يُرِد الاستسلامَ لَهُ فهزمَه.

 

شيماء قوِيّون، 26 عامًا.

 

 

تمثالٌ من شمعٍ.. بائسٌ.. وحيدٌ.. زاهدٌ وشَريد.

أصادِقُ بُؤسي، وصديقيَ الثاني نبيذ،

صديقي الثاني.. خائنٌ وثائرٌ وعنيد.

مَحى لامُبالاتي، أجبَرني على الاعترافِ، فخنته أيضًا، وتركتُهُ مثلي وحيدًا.

ذبتُ أنا، نظرتُ إليه فلم يكُن إلّا شمعًا مِثْلي!

هل رغبَتِي في الاعترافِ هي ما جعلتْ منهُ نبيذًا؟

ملّني الشّمع. اختَنَقَ من رائحةِ احتِراقي.. فتَحَ البابَ هاربًا لظلامٍ أسودَ

وتركَني.. أذوب في وحدَتي.

تمثالٌ من شمعٍ.. بائسٌ.. وحيدٌ.. زاهدٌ.. محترقٌ أيضًا، وشَريد.

 

ياسمين طالب، 22 عامًا.

 

 

يحـتقِر اليائِسُ الحياة، كما يحتقِرُهُ اليأس: أبشـعُ ما يصيب المَرء. يعانـِقه من جزءٍ منه مـُحدّدٍ، ثمّ يبدأ بالانتشار إلى أجزائِهِ كُلِّها. هـذِه اللّعنة التي تجمَعُ الكثير من الألم الجسديِّ والنفسيّ معًـا، وهذا بالضّبط ما تعنـيه الصور الثلاثُ مجتمعةً، بمراحِل متتالية. مشاعرٌ غيرُ واضحةٍ أولًا، وأخرى مكبوتةٍ، والكثير منها متألِّمة جدًا. لا قيمة للواقع والحياة والأشخاص، المغادِرون منهم والباقون، الجيدونَ منهم.. والذينَ لا يـُطاقون. وسط هذا الشّكل من اللاوجودِ والعدميّة يبدأ اليائِسُ بالاحتـراق.

اليأس هو المسؤول الأول عن الاحتراق، ولأنّ لا مجال للوجود وسط اللاقِيمة؛ فالاحتراقُ هو المرحلةُ الأخيرة المعهودةُ دائمًا وقانونًا.

إنــه إنكارٌ للحياة،

تحقيرٌ لحقيقتِها،

حياة بدون مركز، وتلاشٍ للحقيقة.

 

خديجة الإدريسيّ، 23عامًا.

 

 

وحدي هُنا وظلُّكَ يرافِقُني،

أحاوِلُ النّسيان لكنَّ السُكْرَ يُعيقُ ذلك.

كلّ شيء يذكّرني بك: لونُ الأرضيّة الأسودُ مثلَ شَعرك، بياضُ الخلفيّةِ مثلَ قَلبِك، وطعمُ الخمر.. إنّه يُشبه طعم فقدانِك.

وحدي هنا مثلَ شمعةٍ أذوب، أذوب في الماضي، أذوبُ في ذكراكَ، وثقلُ الذّكرى يحرقني، ويعيقُ النّسيان. حريقًا حوّلَ جسمي لهُلام،

كم حاولتُ تحمُّله، لكنَّ الإنسانَ فوق طاقَتِهِ لا يُلام.

 

زهيرة ارميل، 23 عامًا.

 

 

وحدتي تَلْتَهِمُني

وحيدٌ جليسَ أفكاري وكياني،

بلغْتُ الثّمالة من نبيذي،

وصارَ الكأسُ جليسًا لي.

بلَغْتُ الثّمالة إلى أن صرتُ مثل شمعٍ أذوبُ في اللّيل الحالِكِ،

أنظر لسواد بابي وأنتظرُ خلاصِي.

وراءَ وحدتي وحدةٌ أبعَدُ وأقسى،

أفكر وحدي، والحياةُ مثلَ نغماتِ حُزنٍ في فُؤادي.

لا بُدَّ لشموعي أن تضيءَ، وثمّةَ بهجةٌ ستخرجُ من مأساتِي،

آآهٍ يا ربيعَ قلبي.. مَتى تُزهر؟

آآهٍ يا قلبي، إنّني ذُبتُ من الانتِظارِ،

وتبخّرت أضغاثُ أحلامي.

 

انتهت آلامي ومعاناتي،

قد حلَّ الخلاصُ.. وانتهت معه مأساتِي.

 

سلمى سركالي، 20 عامًا.

 

 

ها هي ذي خَمرتي أمامي.. أَأُعاقرها أم تعاقرني؟ لم أعُدْ أعرفُها.. لم تعُدْ تعرِفُني. أنظر إليها وكأنّي أُغازلها، تنظُرُ إليَّ.. وكأنها تَرثيني.

ها هي ذي شمعتي أمامي.. أَأذوبُ قبلها أم تذوبُ قبلي؟ ما عدتُ أعرفُها.. ما عادَتْ تعرِفُني. ظلامٌ كُلّ ما حولي، أذوبُ كلي.

لم أعد أملِكُ أعيُنًا لأنظرَ إليها، ولا زالتْ، أُحِسُّ بها، تنظُرُ إليَّ وكأنها تَرثيني.

ها أنا ذا أمامي.. أحترقُ كلّي، رأسي الذي هو رأسي يُسقطني. ما عدتُ أعرفه.. ما عدتُ أعرفُ نفسي.. أنا ظلامِي وأنا السّوادُ الذي خلفي. أنظرُ إلى نفسي.. أترجّاها.. تنظرُ إليَّ وإنّها ترثيني!

 

حمزة الساطع، 21 عامًا.

 

 

على طاولةِ الانتظارِ، عقارِبُ السّاعة توقّفَتْ.

أنتظر من وعَدَتْني بأنَّ وحدتي ستنتهي، وبأنَّ طاولتي.. سيصبِحُ لها كرسيّان.. أو ولَدَان!

لكن، أنا ذا جالسٌ على الكُرْسِيِّ.. الواحِد. لا أحدَ قادمٌ، ولا مؤنِس لوحدتي. ولا لأنغامِ كلماتي مِن مُستمع.

طال انتظاري فذبُلْتُ وجسدي بدأ بالانهيار،

أصبحتُ نصفَ حيٍّ،

احزاني أظلَمَتْ شَمسي، طَرَقَ اللّيل بابَ مخاوفي،

وتكسّرتُ.. مثلَ مزهريّة.

أنطفِئُ رويدًا رويدًا،

مَنْ سَيَحمِلُني حينَ يَحِلُ المساء؟

 

فاطمة الزهراء اسحيته، 25 عامًا.

 

لماذا تنظرينَ إليّ بابتسامتِكِ الخبيثة، وتريدينَ أن أفقِدَ صَوابي؟ لماذا تحملين في عينيك الأكوانَ؟ وبين حاجبيكِ لماذا أرى خطًا كأنّه برزخ. أي شيءٍ يطمعُكِ فيَّ؟ وأنا الكهل المتعَبُ طفلُهُ داخله.

قالتْ: شَمَمْتُ رائحةَ النبيذِ الذي سكبتَهُ..من روحكَ.. فقلبك.. فشفتيكَ.. فقارورة قهوتِكَ.

لماذا تنظرين إليّ وتشعُّ نارُكِ في شمعتي لأذوب؟ أنا كهل فارغ يمشي إلى النّهايات، وأنتِ شمسٌ دفؤها لا ينتهي.. لماذا ابتليتني بنوركِ وحرمتِني من الضوءِ الخافِتِ في ظلمتي؟

أي ملاكٍ ملأني فجأة بحبك؟ أو أيُّ شيطانٍ أغواني بأنْ أسلُكَ باب الحياة إلى حضرة موتك؟

مَن أنتِ؟

قالت: أنا شمسٌ تشتعل من الدّاخل إلى الخارج، أنا الذي تحرقني أشعة نظراتك كما لم يحرقْني شُعاعي، أنا التي لا تخافُ الموتَ بِقَدْرَ ما تُفزِعُها الحياةُ.

لو أنّني كنتُ مثلَكِ يا حبيبتي، لو أنّي شهِدْتُ “صُنْعَ” الله للحياة، لو كنتُ أعرف الموجوداتِ كلّها، لو كنتُ قبلَ جهنّم، أو قبلَ خزائنِ الجنّة، لكنتُ رافقتُكِ إلى الخلود، مطمئنًا، ولمشيتُ نحو حتفي فيكِ. لكنّني كهل، لم يقبل سواك، أنا مثلُهُ: “ما جربْتُ ربّي”، ولا تسألي أحدًا.

قد التَصَقْتِ برأسي، تحومينَ فوقَهُ أبدًا..

أكملي ما بدأتِ: خُذي جَسدي، قبِّليني، أحرقيني.. وقولي أحبّك.

 

إسراء ناصري، 20 عامًا.

 

 

خالِ البالِ من هَمٍ ومِنْ قَلَقِ

جميلٌ تعلوا البشاشة محياهُ

 

مستند تراه على طاولةٍ

كمستريحٍ من شيءٍ ربّما أعياهُ

 

يمرُّ الوقتُ ويبقى منتظرًا

ويذوب صبرٌ طالَما أخفاهُ

 

كشمع يندَمُ يوم فنائِهِ

على فتْلٍ أحرقتْهُ صُحباهُ

 

عدنان موحسن، 26  عامًا.

 

اِرمِ أوراقَكَ كاملةً، أو دعها تتساقَطُ كصفقِ الشجرِ عند فجرِ كلِّ أيلول،

اِرمِ أوراقَك كاملة، أو ادفعْ بها إلى لهيبِ تمّوز،

تحدّث، اُصرخ.. أو ابتسمْ..

فأنا لازلتُ هنا عند ركبتيكَ أطلُبُ تهويدةً،

أنا هنا عند ركبتيكَ أُصلّي لعشتار في عينيكَ،

أنا هنا عند ركبتيكَ ألعق بقايا الصحْوِ على زجاجةِ خمر،

أنا هنا وقد غرب تمّوزُ وأشرق كانونُ داخلي.

أنا هنا أمشي بلا توقٌّفٍ، أجرف ورائي كياني الهادئ إلى أزقةٍ ضيّقة،

أنا هنا أجوب شوارع الذاكرة، أطوف السّبعة حولَ رفوفها، أبحثُ عن سرابِ خيطٍ أعقِدُ عليه آمالي..

أبحثُ.. عن العزيزِ ليشتَريني…

أنا هنا..

أنا هنا أصرخُ، أرقصُ، أُقيم جنازةً، أُشعلُ شمعةً أو سيجارةً.. أعيشُ على احتراقِها ويعيش العالم على احتراقي..

أنا هنا..

فارمِ أوراقَكَ اليومَ كاملةً؛ فليس بعدَ اليومِ يومٌ آخَرْ.

 

فدوى بوعملات، 20 عامًا.