الكتابةُ فعلًا استشفائيًا
خاص بـــ«مجلّة أفانين»، ياسين أرحال
إنّ الكتابة ليست مجرّد صنعة تُمارَس، وحرفة يُتقنها الأديب ليتزيّن بها في مجالس الفضلاء، بل هي في جوهرها طقس وجودي، تُمارَس في خلوة الكاتب مع ذاته الجريحة. هي ذلك الخيط الرفيع الذي يصل بين أعماق الروح وفضاءات المعنى، فتُصبح نافذةً للبوح حين تُغلق الأبواب كلّها، وبلسمًا للألم حين تعجز الأدوية المادية عن تطبيب الجراح الكامنة في وجدان الإنسان. إنها تُعيد تشكيل الفوضى الداخلية، وما الألم سوى الحافز الأعمق لها؛ فالكلمة تنبت من جرح الرّوح، وتسير على خطى المعاناة حتى تصل إلى فضاء الشّفاء. وهنا تُصبح الكتابة وسيلة «للتطهّر» من أوجاع الوجود، إذ يُلقي الكاتب على الورق كلّ ما يثقل كاهله من أحزان، ليُولد من جديد، وقد اغتسل بماء الحرفِ وصلّى في محراب الكلمة.
إنّ القلم، على حد تعبير أحدهم، هو «لسان الروح»، فهو الوسيلة التي يُعبّر بها الإنسان عن أعمق مكنوناته دون خوف أو خجل وبمدادِه يسكب ما يعجزُ اللسان عن النُّطقِ به، وما يخفيهِ الليلُ عن عيونِ النهار. إذ يشقُّ عن جراحِ النفس، ويُلقي بأثقالها في قِدرِ الورقِ لتغلي حتى تتبخر، فلا يبقى إلا صفاءُ النفسِ كعينِ ماءٍ طَهرت من دنسِ الأتربة.
فالكتابة «صيدلية» أوسعَ باباً، وأغزرَ نبعاً، وأدومَ أثراً من تلك التي يصفُها الأطباء. إنّها ذلك الدواءُ الذي تُعِدّه النفسُ في مختبراتِ الألمِ، وتُركِّبُهُ من مزاجِ الفكرِ وخلاصاتِ التجربة …فلو نظرت إلى أدوية الصيدلياتِ، فما هي إلا مرهمٌ يُغطِّي الجراحَ ولا يُبرئها، أو أقراصٌ تُخدرُ الألمَ ولا تقتلُ علَّته. أما الكتابة، فهي البلسمُ الذي يغوصُ في عمقِ الأعماق، فيشفي النفسَ من جراحها، ويُضمِّدُ الجراحَ التي لا يراها الطِّبُّ ولا تُدرِكها حكمةُ الأطباء. لا تكتفي بأن تُخدِّرَ الوجع، بل تُنقِّبُ عنه في أعماقِ النفسِ لتُخرجه إلى النورِ. هي جراحَةٌ باطنةٌ، تُبيدُ أصولَ الألمِ وتُطهِّرُه بالحروفِ .. هي شفاءُ الحائرِ إذا ضلَّ الطريق، ودواءُ المهمومِ إذا أعيَتْه الدنيا.
وهي ميدانُ المعاني تَتَهادَى فيه الأرواحُ الظامئةُ إلى البلسم، فتُقيم للجرحِ سُكنى في البياض، وتجعل من الورقِ مآتمَ للآلام ومواطنَ للرجاء… وهي رَحِمُ المعنى ومهبطُ الحيرة، وبئرٌ تفيضُ منه مياهُ البوح، لتغسلَ أدرانَ النفس وتُطهِّرَ أوجاعَها، وهي أداةٌ مُلتهبة، لا يخطُّ فيها الحرفَ إلا إذا لامَسَ أعماقَ النفس المحترقة. ففي الكتابةِ تُولدُ الحقيقةُ عاريةً، بلا زينةٍ ولا رداء، وهي أيضًا انبثاقُ النفس من حطامها، وتجميعُ شتاتها في صورةٍ تليقُ بها.
إنّ الكاتب في لحظاتِ الألم الكبرى وهو في غمار بوحه، يُعيدُ اكتشافَ نفسه، يُحادثُ وجعَه، ويصوغُ مأساتهُ على هيئةِ كلماتٍ تخترقُ الزمن. إنّها لحظةُ المصارحةِ الكبرى، حيث لا يخشى الكاتبُ أن يُبرِز ضعفَه، ولا يترددُ في كشفِ جراحه. ومن تلك اللحظةِ، يَنبعثُ شفاءٌ غريب، كأنَّ البوحَ يُرمّمُ ما انكسرَ، وكأنَّ الحرفَ يُعيدُ للروح توازنَها ففي نهاية المطاف إنها الفعلُ الذي يَجمعُ بين الهدمِ والبناء؛ تهدمُ الأوجاعَ التي تتربّصُ بالنفس، وتبني جسرًا نحو السلام الداخلي.
Afanine
مجلة أفانين: هي منصّة إلكترونيّة حرّة، وشاملة، ومتنوّعة، تديرها جمعيّة كتّاب الزيتون والمعهد اللغوي الأمريكي بالدار البيضاء، وتضع على عاتِقها أن تفتحَ نافذةً، للكتّاب والفنّانين في المغرب، نحو آفاق الإبداع. تنشر المجلة أعمالًا أدبية وفنية للكتاب والفنانين الشّباب بالمغرب، بالإضافة إلى مقابلات، وبروفيلات، وفرص، وصور فوتغرافية، وغير ذلك. تروم المجلة تسليط الضّوء على إبداعات الكتاب والفنانين الصّاعدين بالمغرب.