«هُو صَحيح الهوى غلّاب»؟

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، هدى الشّماشي

كتبَ ابن حزمٍ الأندلسيّ “الحبُّ أعزّك الله أولُه هزلٌ وآخره جد”. دَخَلَتْ صديقةٌ لي عالم الكبار أوّل مرةٍ من باب رؤية هذا المشهد: شاب خائف ومرتبك يُوَجه الركلات إلى بطن فتاة تعضُّ على قماشِ سُترة صوفيّة وتبكي. السترةُ حمراء بشكل مؤذ. تجمدت المتلصِّصةُ مَكانَها وسجل ذهنُها كلَّ شيء عندَها: دموعهما معًا، قبلاتُ المعتدي على رأسِها، والدمُ الذي سال بالنهاية على فخذيها تحت جلبابها الأسود.

باب من أحبَّ من نظرةٍ واحدة

نشأ ابن حزم في جوٍ من الحنان والرعاية النسائيّة خلال زمنٍ مزهر من أزمنة الأندلس. يقرِّبُنا كتابُه  «طوق الحمامة» من هذه الأجواءِ ذات الدّعة الحالمة. تقرأه عاشقًا فتشتعلُ نيرانك وتتأوّه، وتقرأه على غير تلك الحالِ فتبتسمُ، وتقلب شفتيك على شؤون لهفتك السابقة، إذْ إنّ “أوله هزلٌ وآخره جد” ولكنَّ بَعْدَ آخره قد يكون هزلًا أيضًا، إذ يَعْبُرُ الحبُّ كضيفٍ صاخب متطلبٍ غير أنّه يمضي، ويمكنك عندها أن تتذكره دون ضَرر.

تُسْعِفنا الأغاني دائمًا بما يلزمُ من الخلفيات الموسيقيّة لممارسة هذا النوعِ من الحنين. تصدحُ أمُّ كلثوم في واحدةٍ من أغانيها بسؤالٍ عظيم: “هُو صحيح الهوى غلّاب؟”. حكت لي صديقتي أنّها كانت قد شهدت تلكَ الحادثةَ المؤلمة عند طريق المقابر، عندما كانتْ في الثالثة عشر من عمرها، وأنّها فهمت ولم تفهم، وأحسّت بانكسارِ بيضٍ كثير في قلبِها. إنّ عصافير الحب لم تسكنه كثيرًا بعدها، وحينَ كبرت بما يكفي دخلت في دوامةٍ من العلاقات التي تؤذي وتتأذى فيها بلا هوادة، إِذْ ما اسمُ تلك الحالة التي نكون فيها دائمًا على أُهبة الاستعداد لِعَضِّ الآخَر؟

في الميثولوجيا الإغريقيّة أيضًا حكاياتٌ أخرى فيها عشقٌ وأطفالٌ ميِّتون، ولنتذكَّر قصةَ «لاميا» إلهة الثعابين الليبيّة، التي تتعرضُ لإغواءٍ كبير الآلهةِ زيوس من النظرة الأولى فتحبُّه وتنجبُ له أبناءً كُثُر، وعندها ينزلُ بها انتقامُ زوجته هيرا الغاضبة، التي تتلذّذ بقتل أطفالِ حبّها أمامها. هذه حكايةٌ اعتياديّةٌ عن القسوة والألم والعيون التي تُقتلَعُ من محاجِرها، ثم شيطنة المرأة التي تتحمل وزرَ العشق وحدها، وهو يتحوّل فجأة إلى «جِدٍّ» كامل.

تتساءَلُ أمُّ كلثوم، في الأغنية المذكورة بكثيرٍ من العذوبة، عن غَلَبة العشق وسلطانِ الهوى، ثم تتدفقُ من حنجرتِها آهاتٌ كثيرة لا تنتهي، وتلك وسيلةٌ أخيرة لقولِ الأشياء التي لا تستطيعُ الكلماتُ قولها. طوَّرت نساءُ الريفِ شمال المغرب بدورهنَّ خلال سنوات سابقةٍ حيلةً مماثلة لإخراج مشاعرهنَّ إلى النورِ دون الخضوعِ للعقاب أو اللوم؛ إنّها نوعٌ من الجَذْبة التي يرقصنَ فيها أو يخمشنَ وجوههنَّ أو يضحكن ويصبُبْنَ الماءَ على أجسادِهنَّ، ويتحولن لبعض الوقت إلى شياطينهنَّ الخاصّة.

والآنَ، هل كانت كلُّ أولئك النساءِ ممسوساتٍ فعلًا؟ لقد كُنَّ محكوماتٍ بالقهر. مع أنّك قد تتحدّثُ حاليًا عن ذلك فتجِدُ مَن يلومونك من كلِّ صوب؛ يمكن للناسِ أنْ يدافعوا عن «تاريخهم» بتعنُّتِ طفلٍ غاضب أحيانًا، وأنْ يلقوا أمام وجهك فجأةً بأناشيدِ النساء المعزَّزات المُصانات في ثقافتهم، أو بالدينِ الذي كرَّمَ المرأة، ولكنْ من أينَ جاءت إذنْ تلك السّيرورة الطويلةُ من الإساءاتِ الحارقة؟

إلا أنّنا كنّا نتحدثُ عن الحُب. يكتب ابن حزم برهافةٍ شديدة في ثلاثينَ بابًا عن مراحلِ العشقِ كلِّها من أول النظر إلى بقيّة ما يتبع ذلك من وصلٍ وهجرانٍ وضَنى، دون نسيانِ أنْ يختمها ببابينِ عن قُبْحِ المعصية وفضلِ التعفّف؛ إنّه صوتُ الفقيه فيه أو صوتُ الرقابة والصّيت الحَسَن في ذلك الزمن، عدا عن أنّ الحب هديةٌ ملغومةٌ بكل ما أردت وما لا تتوقعه، غير أنّ هذا العدد السحريَّ يقودنا بسهولةٍ إلى قصةٍ عشق أخرى.

باب السُّلو

نَظَمَ فريد الدين العطار، الذي لا يُضاهى، قصةَ الثلاثين طائرًا الذين ينجحون في إكمالِ رحلةٍ صوفية مكتظّة بالرموز. إنّنا نقرأُ «منطقَ الطير» في كلِّ مكانٍ من العالم حتى اليوم، فنحسُّ بدغدغةٍ في قلوبنا، إذْ إنّ العشقَ، كما نعلمُ، طائرٌ غامضٌ في الصدر.

 تجتمع الطيور التي ترغب بالذهاب للبحث عن ملكها، ويقرِّرونَ تنصيب الهُدهد مرشدًا لهم، إلا أنّه يصرِّحُ بدءًا بالحقيقة التي نعرفُها جميعًا: “لا بُدَّ للعشقِ من ألم”؛ لأنّ طائر السيمرغ المنشود يوجدُ خلف جبلِ قاف، وأنّ الرحلةَ أهوالٌ كلُّها ووديان كثيرة من الحيرة والطلب والعشق. هذا حديثٌ عن شكلٍ «أنقى» من أشكالِ الحب، غير أنّه لم يسلم من سوءِ الظنِّ والارتيابِ مع ذلك، وقد أحرقَ الصوفيونَ في سبيله أرواحهم كفراشاتٍ خَيِّرة.

 يبلغُ الطيورُ الجبلَ، ولم ينجُ منهم سوى ثلاثينَ واحدًا، وهنالك يكتشفونَ في لعبةٍ للمرايا بأنّ المعشوقَ هو هُم أنفُسُهم، وبأنّ الرحلة كلَّها كانت من أجلِ أن يتبيّنوا ذلك. فيذكّرني هذا بفتياتِ مواقع التواصل الاجتماعيّ اليوم، وبالموجةِ الجديدة من حبِّ الذات والتغنّي بها والاستمتاعِ التامِّ بالوحدة. ينبع كلُّ هذا من خيبةِ الأمل تقريبًا: لقد خنقْتَني وها أنا أتحرَّر منكَ وأتنكر لك، لقد هربتُ منكَ ومُباركٌ هو هَرَبي! ولكن لنعد إلى المرأةِ الريفيّة، وهي تدخل جذبتها، تلكَ الرقصةُ السريعة والمباغتةُ لشاةٍ تُذْبَح.

إنّني أمازيغيّةٌ تكتبُ بالعربية؛ ولذلك فعادة ما تعوزُني الكلماتُ المناسبة، ويبدو الأمر كلّه مثلَ تدافُعٍ للحصى في فَمي.

تدخلُ المرأة حالةِ «أنْعاي» فتسقط عنها لحظيًا كل المحاذيرِ المجتمعيّة الخانقة، وبوسعها أن تشتم أو ترقصَ أو تُهلوسَ أو تصرخ فقط، لأنّه “يا قلبي آه” على رأي أمِّ كلثوم، ولا شيء أفضل لتصويرِ العذابات من آهَةٍ. أمّا الأغاني الريفيّة الجديدة فتتغنّى بأنماطٍ هجينة من الحبِّ الاستعراضيِّ الماديِّ سريعِ العطب، ونشعر وكأنَّ الألحانَ الصاخبةَ تحاول دائمًا أن تخفيَ شيئًا آخر.

إنّ الفنون هي قبعةُ الساحر التي تفاجِؤُنا. لذلك؛ فعادة ما يحلو لها أن تلهو بأمورِ الحب. تبدو نساء أغاني «ريفِ ما بعدَ موجاتِ الهجرة» جميلاتٍ ومتحدّياتٍ ومنطلقاتٍ، ويبدو الرجالُ شغوفينَ وغيورين، ويبدو كلُّ شيء وكأنه يقلد شيئًا آخر، أمّا العشق فيجلس منتظرًا في الزاوية، ولكنّه غير مهزومٍ ولا مُنكسر.

قالتْ لي صديقتي: إنّها تكره كلماتِ هذه الأغاني التي تصوِّرُ حبًا عنيفًا بأيّ شكل، ولا تتعامل معها أبدًا على أنّها مجازٌ عابر فلقد رَأَتْ ما رأت، عدا عن أنّ الهوى في مجتمعاتنا ليسَ “غلّابًا” أصلًا. يختارُ الأهلُ عادةً شريكاتِ الحياة المناسبات لأبنائهم آخِرَ الأمر، ويميلونَ هم بدورهم لأكثر أنثى لم تبادلهم اللهفة والاهتمام، وذلكَ؛ لأنهم يتلذّذون كثيرًا بالحالة القديمة للصياد والطريدة النافرة.

 تَتّخذُ فتاة واقعة الإجهاضِ الغامضة من طفولتها أبرزَ مقعدٍ من ذكرياتها لزيادةِ الطين بلّة، وتتذكر نظراتها الثقيلة إلى المعتدي، ذلك التحديقُ المتعاطف الملغوم الذي تصبح معه حقيقة الاعتداءِ هشّة أصلًا، إذْ ما الذي لم تتوقعه نساؤُنا من الرّجال في النّهاية؟

تطرحُ كتبُ الصوفيّة أيضًا مسألة الحُجُبِ الكثيرة والأشياء التي تتلوّن أو تتخفّى أو تتبادل أماكنها كل حين، ويبدو أنّ ذلك هو دأبُ أشياءِ العالم: قصصُ الحبِّ التي تخفي آلامها، والمحبونَ الذين يكتشفون نهايةً أنّهم لا يحبونَ سوى أنفسِهم حين يتودّدون باستماتةٍ لآخر، وكل تلكَ التشبيهات والاستعارات التي تصنع ظلالًا وغلالاتٍ للحقيقة. كَتَبَ ابنُ حزم في وصف السُّلو الذي ينهي الحبَّ ويدفِنُه: “ويكون الإنسانُ عندها وكأنّه لم يحبَّ قط.”