مكتفيًا بصورة أمّي في ذاكرتي

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، حفصة اسرايدي

 

وحدي أقبعُ ببقعةٍ في بطن الغَبَشْ، بمظهرها الرمادي الموحش، وتلك الفجوة الصغيرة التي تتوسط إحدى جدرانها بقضبانها الأربعة، كأنّها حراب مغروسة في صدورِ أشخاصٍ غيرِ مرئيين. تبدو الزنزانةُ غارقةً في الانتظار، انتظارُ ما يشبه شاشةً ذهنيةً تعرض عليَّ مشاهدَ ولمحاتٍ من حياةٍ ربّما عشتُها أو تخيّلتُها أو سمعتُ عنها، لا أعرف كم بقيت على هذه الحال، أو كيفَ فقدتُ ذاكرتي، كل ما أذكُرُه هو استيقاظي ذاتَ يومٍ هنا، وأنا أشعُرُ أنّي محبوسٌ في قعر بئر يضيق بي، مُهدِّدًا بتهشيمي كلّما اقتحمَتْني فكرةٌ تساعِدُني على استعادةِ بعضٍ من ألق ذاكرتي، لكنَّ صوتًا داخليًا استمرّ في الهمس لي بأنّي لم أختَرْ المجيءَ إلى هنا، وظلت صورةٌ وحيدةٌ تتوارى في ضبابِ ذهني وتطفو على سطحِهِ؛ أخبرني قلبي أنَّها أمّي.

استمرَّ هذا الصّراع مع خواطري لسنوات، كانت تعتريني رجفةٌ كلّما قلبت بين أطلال الذكريات المتبقية في رأسي، ظل يخالجني شعورٌ بأنني هنا؛ لأنّني كنتُ أبحث عن شيء ما، وأنَّ مُبْتَغاي الغامض لم يتجسَّد لي بعد. لكنّني واثقٌ من وجوده «كطلسم يبغض الاستبانة»، ويسهب في الإبهام والإِلْغاز. فكرتُ في أنَّ ما أسعى إليه ربما يكون موجودًا في متنٍ ما، هي أرضٌ ربما قرأتُ عنها وعن عوالمها أو ربما وطأتُ جغرافيتها ولمستُ تضاريسها في طريقي إلى هنا، لا أتذكر على وجهِ التّحديد كيف، لكنني موقن أنني أنتمي إليها… مثلَ انتمائي لأمّي.

خطر لي أنْ أقبضَ على جوهرها، وألمحها في وضع جمود؛ لأنّي لو استطعت رسم مجازِ هذه المشاهد، سأدركُ ماهيّتها، لذلكَ أخدتُ أخطُّ على جدارِ زنزانتي ما أتصوَّرُ أنّه هيَ، باستعمالِ قضيبٍ حديدي وجدتُ آثارَه على جسدي. لكن.. في الحال أدركتُ صعوبة الأمر، خاصّة أنني قررتُ نقشَها على الحجر، صوَّرْتُ غصنَ زيتونٍ، وامرأةً ترتدي ثوبًا أسودَ مطرزًا بالأحمر، تقطفُ التفاح من شجرة، خَطَطْتُ العددَ ثمانيةً وأربعين بجانبه خمسًا وسبعينَ خيمةً، وجدتُ نفسي أصوِّرُ مشاهدَ لا اعرفُ من أين تأتيني، تتجسدُ متحركةً أمام عيني بمجرد نقشِها على الجدار، حائطٌ تتراقص عليه قبعاتٌ سوداء، طفلٌ ينتحب وأبٌ يصرخ، يختبئان كلاهما خلفَ برميلٍ إسمنتي، وسطَ وابلٍ من الرصاص لا يتوقّف، ثم مشهدُ ركودِ الطفلِ على ساقَيْ والِدِه، واصلتُ رسمَ ما يمليهِ عليَّ عقلي وأنا لا أتوقَّفُ عن البكاء، قبةٌ ذهبيةٌ تعتلي مبنىً مثمَّن، على جدرانِهِ أربعةُ أبواب، جدارٌ ضخم متعرج يعزل أرضًا، وصبيٌ بملابسَ مرقعةٍ، حافي القدمين، يدير ظهره عاقدًا يديه خلفه.

 واصلتُ النقشَ بالليل والنهار، لم أشعر بإرهاقٍ ولم أفكّر في راحة، ارتحَلَ صَوْبي كلُّ ما تخيلتُهُ، وقبع بين أطراف أصابعي، لكن توقفتُ فجأةً بعد أن تحسَّسْتُ بقايا نقوشٍ على الجدار لم أكنْ أنا صاحِبَها، مشاهدُ نصفُها واضحٌ ونصفُها الآخَرُ يضمحلُّ ويخبو، انقطعَ الهامي فجأةً، وتوقفتْ المشاهدُ عن التدفُّقِ إلى مُخيِّلَتِي، داهمتني فكرةُ أنَّ رسومي لا تختلف عن غيرها من الرسومِ المجاورة بل تكادُ تماثلها، الفارقُ فقط في أنَّ نقشي ما زال مكسوًّا بغبارِ الحفر، فعَنَّ لي أنَّ الزمنَ كفيلٌ بجعلِ التماثل تامًا؛ لذا قررتُ أن أكتفي بصورةِ أمي في ذاكرتي.

فُتِحَ باب الزنزانة، نعم إنّه يوم الافراجِ عني، لا اسم لي ولا هوية ولا ذاكرة، كل ما أستطيعُ اقتفاءَ أثره هو أمّي، وحدها من سيتذكرني، توجهت خارجًا تقودني قدماي نحوَ بوابة السجن، أمشي في عتمةٍ بين الزنازين محمولًا على الرائحةِ والأصوات، فتحتُ البوابة، انبثَقَ نورٌ باهرٌ أنار عتمةَ ذاكرتي وأضاء وجودي كلَّهُ، مع انبثاقِهِ لامست قدمي أرضًا صلبة، رائحةُ ترابِها جنة، رائحةٌ لم أفلِحْ في تحديدِ ماهيَّتِها، راحتْ تستثير ذاكرة معتلّة، ترجها وتوجعها دونَ أن تشفيها، وجدتني أبحثُ عن شيءٍ ما مجددًا، رأيتني أخطو في طرقاتٍ ملتويةٍ وأحاول التواصلَ مع من حولي فيخذلُني «تبلبُلُ الألسن»، أطوفُ الشَّوارعَ يقودُني قلبي، أراقبُ الأرصفةَ وأقدامَ السائرين عليها، بدا العالمُ من حولي ثقيلَ الوطأةِ، الكون بكامله يخترقني، ينفذُ من خلالي، يبعثرني ويتلاعَبُ بي.

فجأةً، جحظَتْ عينايَ عند رؤيتِهِ يرفرف، سطعت سنوات ماضيَّ المنسيِّ، تضاعفت جاذبيةُ الأرض وأنا مشدودٌ إلى الألوانِ الأربعة، لقد تذكَّرْتُ، تذكرتُ بياضَ عزتنا، خضرة أراضينا، سواد واقعنا، ودماء شهدائنا، تذكرتُ أنَّ للزيتون وقتَ حصاد وأن لشجرِ التفاحِ رائحة، تذكرتُ أنَّ لحنظلةَ إخوةٌ، وأنَّ لمفتاح العودةِ دارًا تنتظر، تذكرتُ أنني عشتُ في مخيمٍ، حيث كنت أعد الخيامَ في اليومِ مرتين، وفي كلِّ مرة أرجو ألا تزدادَ، لكنّها تزدادُ كالغبار على ظهورها، وفي الحال رأيتني طفلًا يجمع الحصى خوفًا من أن تفقدَ الخريطةُ المعلقةُ في خيمته جزءًا آخَرَ منها، أدركت حينها أنني كنتُ أبحث عن الوطن.

قاطعتْ تسرُّبَ ذكرياتي امرأةٌ عجوزٌ مرت بجانبي، تبدو علاماتُ الوهنِ عليها، أوقفتني عن البكاءِ قائلة: لملم شتاتَ نفسك يا بني وامسَحْ دموعك، هذه الأرضُ أرضنا، حتمًا سنعود. ربتت على كتفي، وواصلت سيرها، إنها ملامح الوجه الذي طَفى على سطح ذاكرتي فورَ استيقاظي، نسيَتْنِي، لكنهّا لم تنسَ الوطن.