في قسمي تلميذٌ يريدُ أن يصبِحَ بقرة

 

شيماء قويون، سطات، خاص بــ”مجلّة أفانين”

 

كنّا على بُعد أيام قليلةٍ من عيد الأضحى، حينَ سألت التلاميذَ في قسمي، هل اشتريتم أضحية العيد؟. كعادة الأطفال في سنهم يتحدثون جميعًا دُفعةً واحدة، فتعلو أصواتهم و هم يحكون لي عن قصصهم في البيت: مَن اشترى كبشًا و مَن سيقضي العيد في بيت جدته و مَن سيساعد والده في طقوس الأضحية. ثم حين سكتَ الجميعُ، تحدّث يوسف فأخبرنا عن خوفه من الخرفان و كيف تغلّب عليه. سألته لماذا تخاف؟ فقال إنّهم مرّة اشتروا بقرةً و تركوها في حظيرتهم بالبادية، وحين ذهب مرة ليزورها كادت أن تضربه بأطرافها لولا أنّ والده أنقذه. يحكي لي يوسف هذا و الحماس يملأ صوته، وحركات يديه تصف المشهد، وكيف أُنقذ بأعجوبةٍ من ركلةِ البقرة التي أرادت أن تضربه.

فاسترسل قائلًا: “عرفتي آ la maitresse، فاش غانولي بقرة غانرجع و غانركلها!”

يوسف ذو الأربع سنوات، صوّر له عقلُهُ الصّغير بمخيّلته الكبيرة، أنّنا نستطيع أنْ نُبعث في حياة أخرى في صور كائنات أخرى و نعيش حياتها. و بالتالي فهو حينما سيصير بقرة، سيعود لينتقم من البقرة التي أرادت أذيته.
لا يتوقف الأطفال في فَصلي عن إبهاري بأسئلتهم، و شقاوتهم و عفويتهم. أحيانًا؛ يُدخل ذلك الفرحَ على قلبي، ببراءتهم و حساسيتهم نحو الأشياء. و أحيانًا، لا أستطيع منع نفسي من القلق. فهم كـ(الإسفنج) التي يمتصّ كل السوائل؛ يتأثرون بشدة ويلاحظون بدقّة كلّ ما يحدث حولهم، حاسة سمعهم رهيبة وقوة ملاحظتهم تُرعبني. عليّ أن أكون حريصةً جدًا حولهم. أن أختار كلماتي جيدًا، أنْ أكون مثالاً لهم؛ كأنْ أفي بوعودي حين أخبرهم أني سأعطيهم حلوياتٍ إذا ما تصرفوا جيدًا. و أنهم سيلعبون لوقتٍ إضافيّ في ساحة الألعاب طالما التزموا بالقواعد.
ومِثلَ شخصٍ مصاب بلعنة (البحثِ عن المعنى) في كلّ ما يقوم به، أحرصُ عن أن أفهم دوري في حياتهم جيدًا. أنا لست هنا كي أعلّمهم الحروف والألوان والأناشيد فقط. فهذه الأبجديات صاروا يتعلمونها على قنوات اليوتيوب وحدهم في البيت، من المؤكّد أنّ دوري أكبرُ من ذلك بكثير. لذا؛ أخصّص حصصًا من أجل أنْ نتعلم قَولَ: “شكرًا، من فضلك، عفوًا، أحبك” وحصصًا أخرى لقراءة القصص، وقد تكون هذه الأخيرة هي حصّتي المفضلة، حين نجلس في دائرة كبيرة، أتوسطهم مُمسِكة بين يديَّ قصة اخترتُها لهم. من المهم أن يكون الكتاب الذي بين يدي ممتلئًا بالصور، يحدقون بها و يسرحون في خيالهم. أستطيع أنْ أرى تقاسيمَ وجوههم الصّغيرة تعلوها الدهشة و الفضول. يتفاعلون بملامح وجوهِهم مع ما أرويه، و حين أنتهي، أسألهم ماذا استفدتم من القصة؟ فتعلو أصواتهم من جديد و يتحدثون دُفعة واحدة، وكل واحد منهم قد رسم في خياله قصةً خاصةً به تختلف عن القصة التي رويتُها للتو. ولو كنت أستطيع أن أكتب ما تخيله كل طفل، من الخمس و عشرين طفلًا في قسمي، لحصلت على خمسة و عشرين قصة مختلفة.

أذكُرُ أنّني مرّةً سألتُهم ذلكَ السؤال المستهلك الذي نسأله لكلّ الأطفال في سنّهم: “ماذا تريدُ أن تصيرَ عندما تكبر؟” أجابتني (غيتة) بسرعة : ” je veux devenir comme toi maîtresse ” ..

تريد (غيتة) أن تصيرَ مثلي عندما تكبر. فاجأني جوابُها وتحوّل مباشرةً لسؤال في ذهني أنا: هل كنت أود أن أصير مثلي عندما كنت في سنها؟ طبعًا كنت معجبة بمعلماتي اللواتي درسنني طوال مرحلة الابتدائيّة، وكنت أقلّد حركاتهنّ وهُنّ يتنقلن برشاقةٍ حول طاولات القسمِ ويكتبن على السبورة بخطٍ جميل درسَ اليوم، لكنّي كنت أقلد أيضًا مقدمة نشرة الأخبار و الممرضة في عيادة الطبيب و شُميشة من برنامج الطبخ.

لم أكن أعرف كيف أجيب عن هذا السؤال التعجيزي أبدًا. و الحقيقة أنّي لغاية الآن لا زلت أسأل نفسي هذا السؤال: ماذا أريد أن أصير؟ تزعجني حتميّة الجواب وأشعر أنّي سأحكم على نفسي بجواب واحدٍ، وعليّ اتباع طريقه.. فقط . لهذا؛ لا أستطيع تحديد مَن أنا.. ولا أدري ماذا أكتب في خانة “المهنة”.  ولو كانت لي شجاعة يوسف الذي يريد أن يصير بقرة، لملأت فراغَ خانة المهنة بأجوبةٍ كثيرة ولتركتُ (للآخَر) اختيارَ ما يتناسبُ معه من جوابي. كأنْ أكتبَ مثلًا: أدّعي أني شاعرة وأنا أبعد ما يكون عن ذلك، أحبّ كتابة القصص و أكتب مذكراتي كل ليلة، وحينما كنت صغيرة كنت أناقش وِسادات غرفة الضيوف كما لو كنّا في برنامج حواري، واليوم أستيقظ كل صباح على أصوات صغارٍ ينادونني: “la maitresse” و يطرحون أسئلة لا تنتهي. وفي الوقت الذي لازلت لا أدري فيه ماذا أريد أن أصبح حين أكبر، هناك في قسمي تلميذٌ يريدُ أن يصبِحَ بقرة، فاتحًا بذلك خياله وخيالي على كلّ الاحتمالات الشاسعة في هذا الكون الكبير.