أحلامٌ مغدورة!

(1)

رأيتُ إعلانًا يعتلي واجهة عمودٍ كهربائيٍّ مائلٍ، التقطتُ صورةً له، ثمّ قفلتُ راجعًا إلى البيت لأعيد تهيئة نفسي. ارتديت بزّةً لائقةً، تطلُّ منها ربطةُ عنقٍ باهتة اللون، واعتمرت بيريّة رماديّة اللّون؛ لأجذب القائمين على الكاستينغ. تعطّرت واتّجهت إلى الموعد أحثّ الخطى.. أحلمُ أنْ أصير ممثّلًا يتفنّن في لعب مختلف الأدوار، وأن أصبحَ من الأسماء الأولى في السّاحة الفنّيّة لتعتلي صوري واجهة الجرائد والمجلّات، ويتهافت عليّ كبار المُخرجين من كلّ حدبٍ وصوبٍ يعرضون عليّ سيناريوهاتٍ وعروض ماليّةٍ مغريةٍ فأتمادى في اختيار الأنسب، وأُعاني من خناق المعجبين الحالمين بصورةٍ أشاركهم إطارها. أحلامٌ تقفزُ في ذهني بسرعةٍ وتُحدِثُ طنينًا كطنين النّحل، نجمَ عنه ألمٌ حادّ.

وصلتُ إلى حيّ المعاريف، المتميّز ببناياتِهِ الشّاهقة، وشوارِعِه الشّاسعة، واكتظاظه الرّهيب، الّذي يفرزُ نرفزةً وكلماتٍ نابيةٍ، بالسّيّارات بمختلف أنواعها وأشكالها.

مررتُ بجانب “توين سنتر”، رفعتُ بصري أحدّق فيه مستغربًا بالكيفيّة التي أنشئ عليها، وكم المدّة التي تطلّبها بناؤهُ. تذكّرتُ الموعد، راقبتُ ساعتي اليدويّة، وزدتُ في سرعة المشي، لم أجد المكان بسهولة إلّا بعد أن استوقفتُ أربعة أشخاصٍ في طريقي، كلّ واحد أسألهُ لوحده؛ لأنّني أخافُ أن يرشدني أحدهم إلى عنوان خاطئٍ، فأتيه في مدينة تعجُّ بالتّناقضات.

الثّقةُ في المدن الكبرى مفقودةٌ، إذا بحثت عنها فكأنّك تبحثُ عن إبرةٍ في كومة قشّ ..!

فرِحتُ بوصولي للمكان المُحدّد في الموعد دون تأخيرٍ. سيّاراتٌ فخمةٌ أمام المبنى، ودراجاتٌ ناريّةٌ متهالكةٌ باهتة اللّون. قدّمتُ نفسي لحارس القاعة التي يُجرى فيها الكاستينغ، وطلب منّي بطاقة هويّتي، ناولته إيّاها، وأشار إليَّ بالجلوس في ركنٍ قصيّ برفقة الآخرين حتى يُنادى عليّنا. أومأتُ برأسي متفهّمًا.

لم أجد كرسياً أجلس عليها حتّى ترتاح قدماي المتعبتان من شدّة الهرولة. كان جبيني يتفصّدُ عرقًا، وإبطاي أفرزا رائحةً نتنةً ومقزّزةً، لأنّني قلّما أستحمّ. رأيتُ ممثّلين مشهورين يُدخّنون سجائر رفيعةً. وجوههم تختلفُ عن التي نراها في التّليفزيون بعدما كذبوا علينا وعلى التّاريخ بأقنعتهم التي تُصنعُ من مساحيق التّجميل التي تخفي بُثورَهُم السّوداء، وتُخفي ندوبًا لازالت مخلّفاتها باديةً عليها. أمّا الممثّلات اللواتي يظهرن في أبهى حلّةٍ على التّلفاز يمشين بكعبٍ عالٍ في دلالٍ وغنجٍ، وبمكياجٍ شديد، فواقع حالهنّ يقول العكس هنا. فشعرهنّ منكوشٌ، يرتدين بِدلاً وأحذيةً رياضيةً بسيطةً، وجوههنّ واجمةٌ، ويرمين زملاءهنّ بعباراتٍ بذيئةٍ ممّا يدفعهم إلى الردّ بعباراتٍ منتقاةٍ من قاموس الكلام المُقذع، فينهالون عليهنّ بوابلٍ من الكلمات السّاقطة المرفقة بضحكٍ مجلجلٍ. تابعت تلك المشاهد بتركيزٍ. فقفز سؤالٌ إلى ذهني جعلني متحرّجًا، ورأسي مدفونًا بين راحتيْ يَديّ، ومرفقاي مسندان إلى ركبتيّ: كيف يتصنّعون على التّلفاز ويُردّدون عبارات تخفي وراءها تواضعًا مزيفًا ومنمّقًا يجعل المُشاهِد يصدّقهم ويتعاطف معهم دون تفكير؟

  إنّ الوجوه في الغالب ليست سوى أقنعةٍ تضمر الخفايا الصّادمة والنّوايا المبيّتة.

(2)

أخذت الشّمس تبتعدُ عن كبد السّماء. يلجُ الغرفة واحدٌ تلو الآخر، هناك من يتأخّر وهناك من يخرج على جناح السّرعة. هناك من يخرج وراحةٌ تامّة تعتلي وجهه، وآخر يخرجُ مكفهرّ الوجه ناقمًا على الوضع. ظلّ صوتُ الحارس، وهوَ ينادي المترشّحين، يصدحُ في أذنيّ. بعض الأسماء سبق لي أن سمعتُها من قبل، وأخرى جديدة على أذني؛ ربّما هي لممثّلين مغمورين.

 فجأةً سمِعتُ الحارس المُنظِّم لعمليّتَيْ الولوج والخروج من القاعة يناديّ عليّ. اقتربتُ من المدخل فرمقني مطوّلًا بنظرة استغرابٍ وتعجّب، لم أفهم فحوى نظرته تلك، ولم أُعِرها في الحقيقة أيّ اهتمام. دلفتُ القاعة، كانت فسيحةً عالية السّقف، تعتلي جدرانَها، الّتي نخرَتْها الرّطوبة فتقشّر طلاؤها، لوحاتٌ فنيّة لأيقوناتِ الفنّ التّشكيليّ: بيكاسو ودافنتشي، وصورٌ لشخصيّاتٍ غالبًا ما ستكون شخصياتٍ تنتمي إلى المجال الفنّي، بيْدَ أنّي لم أتعرّف عليها. قُرب الباب كَراسٍ سوداء من الجلد مصطفّةٍ بإتقانٍ، يجلس عليها ثلاثة أشخاصٍ؛ رجلان سبق أن شاهدتهما في سلسلةٍ فكاهيّةٍ في شهر رمضان لم ترقني ولم ترتقِ إلى مستوى تطلُّعاتي، تتوسّطهم امرأةٌ مليحةُ الوجه، دقيقة الملامح، فارعة الطّول، هزيلةُ البنية. ترتدي معطفًا أسود اللون، وتعتمِرُ قبّعةً مزركشةً، تضع سوارًا ذهبيًّا زيّن يُسراها. بينما يجلس الرّجلان مقطَّبي الجبين، كلّ واحدٍ يشابك أصابع يده مع الأخرى في حزمٍ وثقةٍ كبيريْن. كلّهم يُمسكون ملفّاتٍ موحّدة المقاييس، وهم يتطلّعون إلى وجهي بترقّب شديد.

ألقيتُ التّحيّة وجلست بأدبٍ. نزعتُ البيريّة، ووضعتُ يدي اليسرى على الطّاولة والأخرى بقيتْ ممدودة. رحّبتْ بي السّيّدة باسطةً ثغرها، ومظهرةً الكثير من الاحترام. طلب منّي الرّجل الذي يجلس في أقصى اليمين بأن أُعرّفه بنفسي، وأن أعطي نبذةً عن مساري في المسرح، وأنْ أبيّن له اهتماماتي وتطلُّعاتي. لم يكن لي مسارٌ يستحقّ السّرد سوى أنّني أدّيتُ أدوارًا ثانويّةً في مسرحيّاتٍ مغمورة حضرها عددٌ قليلٌ جدًّا من الجمهور، كان مخرجوها والمكلّفون بالسينوغرافيا والتّأثيث، بل حتّى كاتبها، في بداياتهم ولا يزالون.

تنحنح صوتٌ قويٌّ من أقصى اليسار. اقترح عليّ تمثيل مشهدٍ دراميٍّ هو كالتّالي: أن أحمل حبلًا خشنًا وأضعه بعناية تحت بزّتي، وأختبئ وراء عمودٍ إسمنتيٍّ في وسط القاعة، وأنتظر الفرصة السّانحة للإنقضاض على الضحيّة ولفّه على عنقه، لكنّ الضحيّة سيُقاوم قبل فعل ذلك. تقدّم شابٌّ في العشرينيّات، تبرز عضلاته المفتولة بشكلٍ غير طبيعيٍّ؛ إذْ أنّها نِتاج لمُكمِّلات الأجسام التي إمّا أن تخلِّف عجزًا جنسيًا أو فشلًا كلويًّا، وإمّا أن تتلف الكبد. تقدّم لمواجهتي، أنا المسكين نحيف القدّ واهِنُ القوى،  فكيفَ سأجابهُ ردّة فعله يا ترى رغم أنّنا نؤدّي دورًا تمثيليًّا فقط؟، أيقظ اقتراحهُ ذاك كومةً من الذّكريات الرّاكدة. تفصّد جبيني عرقًا، وشعرتُ بإنهاكٍ شديدٍ في ساقي وقفزَت إلى ذهني ذكرياتُ الماضي العصيب. تسمّرتُ في مكاني ونزل برأسي دوار شديدٌ. قبل عقدٍ من الزمن اقترفتُ جريمةً في قريتي النّائية بنفس الطّريقة. هل نسيتُها حقًّا؟

(3)

كنتُ أحبّ حليمة التي لازالت صورتها عالقةً في ذاكرتي، فطيفها يزورني في كلّ حينٍ حتّى أصبح مترسّخًا في شعاب ذاكرتي. أحببتُها بجنونٍ. كان شعرها مسرّحًا بأناقةٍ وفي عينيها التماعة تُضفي عليها مسحة إغراءٍ. وكانَت كلّما ابتسمت كشفت عن غمّازتَيْها، ووجهها الدّافقُ بالحياة ينضحُ حُمرةً وتورُّدًا. إنّ رؤيتها كافيةٌ لانشراح صدري وتراخي قدميّ. لم تكن تقاسمني أيّةَ مشاعر فيّاضة، فكنت أغلي عندما أراها مع عماد الذي يدرسُ في فرنسا ويعود إلى مسقط رأسه صيف كلّ سنةٍ. لعِبتُ على حبال الكلمات برشاقة حتّى لانَ قلبها، وساعدتها على نقل براميل الماء من “المطْفِيّة” إلى منزلهم الآيل للسّقوط، مبيّنًا لها قوّتي المُضْمَرةِ رغمَ بُنيتي الهَزيلة. كلّ محاولاتي باءَتْ بالفشل، ليمزّق الغيضُ صدري، وتتوقّد نارُ حقدي الدّفين الذي أكنُّهُ لِعماد.

سمعتُ أصواتًا من الخلف، أصواتًا جهوريّةً، كان دبيبها يصل إلى أذنيّ بصعوبةٍ. فقدتُ الوعي وأنا ما زلتُ واقفًا.. كرِهتُ التّمثيل وما يُفرزه. ظننتُ أنّي نسيتُ الماضي ودروبه، لكن ذلك كان مجرّد وهم صدّقته.

تهاويتُ على الكرسيّ وكانت أطرافي مشلولةً. شعرتُ بالضّوء في الغرفة يُصبح ضئيلًا، ثمّ وقفتُ أذرع الغُرفة كطائرٍ مذبوحٍ لا أعرفُ لي وجهةً. سَرَتْ رعشةٌ في جسدي بعدما رُشّ وجهي بماءٍ باردٍ، وبخّت السّيدة من قنّينة عطرها بخّتين على أنفي. استنشقتُ الرّائحة استنشاقًا  قويًّا، استجمعت قواي ووقفتُ أخيرًا، أيقنت بوجوب المضيّ في مواجهة هذا السّيل الجارف من الأحزان بدءًا من الآن.

عاد عماد صيف سنة 2007. كان الجوّ حارًّا. رأيته صحبة حليمة مساء ذلك اليوم يجوبان أزقّة القرية ويداهما متشابكتان. ظللتُ أسترقُ النّظرات إليهما. حاولت السّيطرة على نفسي وحملَها على عدم الانسياقِ وراء الأهواء الشّيطانية، بيْدَ أنّني لم أقدر. سرى في ظهري دبيب رعشةٍ، وأُغشيَ رأسي الدوّار. تبعتهما حتّى افترقا قبل غروب الشّمس، بعد أن طبعَ عماد قبلةً على جبينها ومرّر راحةَ يده على وجهها، ومتلمِّسًا شعرها النّاعم. بينما أفرجتْ هيَ عن ضحكةِ فرحٍ ضاجٍّ يجتاحها.

تصلّبتُ في مكاني مقاوِمًا أفكاري. لم أستطع مجدّدًا. سِرتُ في اتّجاه البيت، فتّشتُ عن حبلٍ قصيرٍ عثرت عليه في الإسطبل، وخبّأتُهُ في سروالي الرّثّ. عِماد معتادٌ على التّمشّي لبرهةٍ في ضاحية المنزل بعد تناوله العشاء مع أسرته. انتظرتُ الفرصة لأنقضّ عليه، وأصبّ جامَ غضبي وحقدي عليه. انتظرتُ طويلًا. دخّن سيجارَتَهُ بعد أن أمسَكَها ومرّرها تحت أرنبةِ أنفه وأودَعَها فمَهُ في التِذاذٍ قبل أن يُضرم النّار فيها. رمى عقب سيجارته وحثّ الخطى عائدًا إلى البيت. اختبأتُ وراء جدارٍ طينيٍّ نخرتهُ الأمطار. تربّصتُ به منتظرًا الفرصة السّانحة لأرتاح من هذا العذاب. اقترب من البيت، أخرجتُ الحبل بهدوءٍ وقمتُ بلفِّه على عنقه بقوّةٍ حتّى أطلق صوتًا لايزال صداهُ يرنُّ في ذاكرتي. قاوَمَ بِبَسالةٍ قبلَ أن أوجّه إلى عقب رأسه ضربةً بحجرةٍ صمّاء أسقطتْه مغشيًّا عليه ثمّ لُذتُ بالفرار. لم أتذكّر كيف وصلتُ إلى هذه المدينة، مدينة الحَزانى وأصحاب النّفوس المكدودة، ولم أعُد أتذكّر كيف أنّني نسيتُ كلّ شيءٍ واختفيتُ عن الأنظار. كما لو أستوعب أنّ عقدًا من الزّمن انقضى ولم يُقبض عليّ بعد. لم أُهاتِف أمّي منذُ عشر سنواتٍ، ولا أحد يعرفُ مصيري، ولا أعرف حكايةَ حليمة بعد موت عماد، وفرار قاتله المتيّم بها إلى أقصى درجات الحبّ والعشق. كلّ هذا لا أعرفهُ.

(4)

 نسيتُ أمر الكاستينغ واللّجنة السّاهرة عليه. تناسيتُ حلمي بأن أصبح مُمثّلًا أتفنّن في لعب أدوارٍ عادية وأخرى مركّبة. عدتُ إلى البيت خائبًا، أخذتُ دوشًا فاترًا لأزيل العرق الّذي أفرزه جسدي. واستلقيتُ على فراشي. في الصّباح استيقظت متهاديَ الخُطى، مرهق البدن ويداي ثقيلتان. خرجتُ من غرفتي صوب الصّالة مصدّرًا زفيرًا مسموعًا، وجدت أُمي تضع على المائدة خبزًا وحليبًا طازجًا وجُبنًا وزيتونًا وبرّاد شايٍ، يتوسّط المائدة، رائحتهُ تزكم الأنوف. وكانَ والدي يجلسُ في ركن الصّالة يُتابع أخبار العالم عن كثب، ورنين صوتِ أختي، وهي تغنِّي يتردّد في أرجاء المنزل. فأدركتُ حينها أنّ حليمة وعماد والكاستينغ وأنا مجرّد أطيافٍ عابرةٍ انطمرتْ في تلافيف الذّاكرة الملعونة.

كلّ الظّروف تيسّرتْ لاقتراف تلك الجريمة، كأنّه سيناريو فيلمٍ دراميٍّ في منتهى الإتقان، بحبكةٍ مكثّفةٍ ومُحكمةٍ وبشخصيّاتٍ لعبتْ أدوارها في مُنتهى الإبداع.. الجريمة وحبّي لحليمة وكُرهي لِعماد، وحلمي بالظّهور على شاشات التّلفاز، هي أوهامٌ وأحلامٌ مغدورةٌ، تلاشى بسببها العشقُ وغاضَ ماؤهُ المجنون.

سفيان البرّاق، أولاد تايمة