إنّه يُغنّي!

هدى الشّماشي، خاص بـــ”مجلّة أفانين”

 

كانت القصّة تُروى على هذا النّحو: ذهب امحند إلى المدينة، وعاد بطفلٍ قال أنّه ولده.

زوجته التي لم تكن محنّكةً كما يجب بفنون الصّراخ؛ صمتت فقط، وضعت الطّفل بجانب أطفالها وجعلتهم يأكلون من نفس القصعة، كان الصّغير صامتًا أيضًا، قال له امحند في اليوم الأوّل: نادِها أمّي، لكنّه لم ينادها أو يحدّثها بكلمةٍ، وكان يكتفي بالنّظر.

هل هذه هي طفولة الرّجل الذي أصبح أبي فيما بعد؟

إن النّاس يقولون الكثير أيضًا.. ذهب امحند مرّةً أخرى إلى المدينة وعاد بأمّ الطّفل ولكنّه أنكرها. كان الأمر محرجًا للغاية. ركض باتّجاه الأخرى-التي لم تكن أمّه- واختبأ في حضنها لأوّل مرّة منذ وطأت قدماه المنزل، وأحسّ الجميع بالذّهول. نادته أمّه باكيةً تقريبًا: أحمد.. ولكنّه تعلّق أكثر بذراعي الأخرى التي لم تبذل مجهودًا لدفعه عنها، قال امحند ليملأ الهواء الثّقيل: انهض وسلّم على أمّك، ولم يكن ينوي أن يجبره على هذا في الحقيقة، عدا طبعًا عن كونه كان يخاف غضب زوجته.

إنّ خوف الرّجال من زوجاتهم أمر يبدو غريبًا للوهلة الأولى، ولكنّه موجودٌ دائمًا!كان امحند يخاف صمت زوجته ووجهها الشّاحب المعاتب. كان أيضًا يخافها حين تطحن الحبوب وتغنّي: يا نجوم السّماء كوني شاهدةً على ألمي..

يكون طفل المرأة الأخرى متسمّرًا بجانبها حينها، ولكنّهما لا يتبادلان الحديث. يلعب أطفالها هي في كلّ مكانٍ ويصنعون جلبةً بهيجةً، أمّا هو فيلتصق بها.

-العباد قساةٌ، والرّب لا يمكن أن ينطق.

يحسّ الرّجل حينها أنّها تصبح بعيدةً تمامًا عنه، محصّنةً وقويّةً ولا تهتمّ لأمره حتّى، وعندها يوجّه لها الحديث أو السّباب.

– الرّب لا ينطق..

– لا تقولي هذا الكفر في بيتي.

– أنا أقوله في هواء الله.

– هذا هواء بيتي.

– يا للكفر!

يكون عندها أبي قد حرّك بصره بينهما كلّما تكلّما ولكنه لا ينهض. يصرخ به والده أحيانًا بأن يغادر إلى حيث الأطفال، أمّا هي فتصمت فقط، تبدو محايدةً تمامًا حين يتعلّق الأمر به، ويلحق بها هو مع ذلك إلى كلّ مكان.

– هل كنت تحبّها يا أبي؟

– كانت أفضل شخصٍ في ذلك البيت.

الحديث عن ماضيه يسعده ويرأب بعض الصّدوع بيننا. قلت له حين طلّقت وعدت لبيته: يبدو أنّنا سننهي حياتنا معًا، ولكنّه بدا منزعجًا من هذه الحميميّة الزّائدة، وسرعان ما بدأ يزعجه كلّ شيءٍ.. قضى ذات مرّةٍ مساءً كاملًا وهو يتحدّث عن مساوئي: امرأةٌ لا تصمت، ولا يمكن لك أبدًا معرفة ما تريده.

    – لا أحد يعرف ما يريده يا أبي..

دخل بعدها صمته ولم يعد يتحدّث عنّي. كانت الوحدة التي تحيط بنا قد جعلتنا نتفاهم بالنّظر أو حتّى بدونه، أمّا حين كان يتكلّم فذلك لكي يروي ماضيه.

– هذا يعني ربّما أنّني سأموت قريبًا.

– هذا يعني فقط أنّنا عاطلان يا أبي..

إنني لا أحبّ الكلمات الكبيرة، جئت بعد طلاقي للبيت وبكيت لبعض الوقت ثمّ انتهى الأمر.. إنّ الفراق يشبه عضّة كلبٍ، فأنت سوف تحتفظ دائمًا بندبته! زوجي قال لي قبل رحيلي: هل هذا ما علّمك إيّاه والدك “المُغنّي” ؟ استعمل في الواقع كلمة شعبيّةً أخرى كانت تستعمل قبل عشرات السّنين، وكانت تجرح كسكّينٍ..

    – والدي أفضل من عشرة بهائمٍ مثلك..

وهذا ردٌّ جيّدٌ، فقد كان مستواي التعليميّ يفوقه، وكان هذا ينغّص عليه حياته.

– بالنّسبة لذلك الرّجل، لقد كان سيّئًا بشكلٍ فاضحٍ.

– أنا أيضًا لست جيّدةً كثيرًا.

– يبقى أنّك ابنتي.

– عيّرني بكونك مغنّيًا يوم تركته ورحلت.

– هل عليّ أن أحسّ بالذّنب؟

لقد جاء أحمد إلى العالم حتّى يغنّي، وكان صمت طفولته كلّه تدريبٌ على ذلك. يفتح فمه حتّى يظهر حلقه ويبدو كأنّه يجرّب الموت أو أشدّ أنواع العذاب قسوةً، مردّدًا أهازيج المرأة التي لم تكن أمّه.. صاح به والده في كلّ مرّةٍ: هل تجرّب أن تكون امرأةً؟ وخاف فعلًا أن يظنّ به النّاس ذلك فبدأ يفكّر بتزويجه. شرح الأمر لزوجته الثّانية فعارضته: في السّادسة عشر، هذا كثيرٌ!أما المرأة الأخرى فلم تعلّق على الأمر، ولكنّها توقّفت لسببٍ ما عن الغناء.

كان أبي حينها قد بدأ يغنّي في الأفراح، ويتلقّى الضّرب من والده في نهاية كلٍّ منها، وبات يفكّر بالرّحيل. جاء رجلٌ ونطق جملةً سحريّةً في أذنه اليمنى: في المدينة قد يسجّلون لك شريطًا، وهذا ما جعله يرحل ذات صباحٍ دون أن يخبر أحدًا من إخوته أو والديه.

– ولكنّك ودّعت الأخرى يا أبي..

– طبعًا، وحين قبّلت رأسها تبيّن لي أنّها تبكي.