تيهٌ نَحوَ البحر!

كان أسمرًا، لا طويل القامة ولا قصيرها، عريض المنكبين، عينان حادّتان وأنفٌ مدبّب، شعرٌ خشنٌ، ذو ابتسامةٍ جذّابة، متّكئًا على الحائط. كان يقتل وحدته في هاتفه، كان وحيدًا وكنتُ كذلك، لكن لم أستطع الاقتراب. هناك حدودٌ غير مرئيّةٍ في العلاقات الاجتماعية لا نستطيع تخطّيها، تجعل علاقتنا مع الآخر محدودةً أو متّشحةً بالغموض. في لحظةٍ ما وعيناي لا تزالان على الأسمر تذكّرت تلقائيّة الأطفال في التّعامل مع الآخر، تلك التّلقائيّة التي تكوّن ماهيتهم، تلك التي نحسدهم عليها فنقول “أطفالٌ صغارٌ أبرياءٌ”..

اقترب منّي وسألني بلغةٍ أعجميّةٍ عن مكانٍ معيّنٍ، تلكّأتُ ثانيتين ثمّ أجبته، ردّ بالشّكر وتابع سيره نحو المكان الذي أشرت إليه. جلست إلى أقرب كرسيٍّ، أخرجت علبة سجائري وأخذت أدخّن، تابعت سير الدّخان في مللٍ، كان اليأس ينتشر في جسدي كمرضٍ عضالٍ، وكان السّؤال: “ما أنا أو من أنا؟” يطبق على خناقي، “أأنا موجودةٌ أم ألعب دورًا في وجودي؟”. بعد سيجارتين رغبت في فنجان قهوةٍ، أرجأت تلك الرّغبة إلى المساء، هكذا أمضي الأيّام التي تتملّكني  فيها هواجسي، من حينٍ لآخر كنت أجسّ نبضي، أتحسّس سني إن كنتُ حيّةً أو ميّتةً بلغة الطّب.

استجمعت شتات نفسي وقمت لا ألوي على شيءٍ غير تمضية النّهار في انتظار التّعرّي أمام ذاتي ليلًا. يرعبني الليل! وأكثر ما يرعبني فيه هو سكون الكون، أجدني أُجابِه أناي الأخرى التي أظلّ أدفنها نهارًا فإمّا أجلدها أو تجلدني ليلًا. وضعت سمّاعات أذني وتوجهت متثاقلةً نحو محطّة الباص، انتظرت قرابة ثلاثين دقيقةً أحرقْتُ فيها سيجارةً، ليتوقّف بعدها الباص على “الخطّ 09″، -اللّعنة على شركةٍ كهذه- كان الباص مليئًا حقًّا لدرجة أنّك تحسب أنّ النّاس هناك يشكّلون لوحةً موضوعها العناق، لم أجد بدًّا من أن أصعد، أخذت التّذكرة وشققت طريقي بين كتل اللحم البشريّة، كانت رغبتي في رؤية البحر تفوق قرف الباص، استندت على عمود حديديٍّ وأخذت أتأمّل سحنات البشر، ملامحٌ أكل عليها الدّهر وشرب وأخرى أخذ منها عياء النّهار مأخذه.

جذبتني تجاعيده، أخذت أسرح فيها وأضع قصّة لكل تجعيدةٍ، تستهويني عادة قراءة الآخر، الآخر السّر، الآخر الصّندوق الأسود، أدردًا كان ذو أعينٍ زرقاء مائلةٍ إلى الاخضرار، كنت أرغب في سؤاله عمّا وراء هذا الجسم الهزيل المختبئ في الجلباب، ما وراء هذه التّجاعيد، وما وراء ذلك الصّلع، لكنّي أحجمت وكثيرًا ما أفعل ذلك. توقّف الباص في المحطّة المنشودة فأخذت أتدافع مع ذلك الحشد البشريّ، وحين خرجت ظننتني ولدت من جديدٍ. أزلت حذائي الرّياضيّ وخطوت على الرّمال، دافئةً كانت.. ابتسمتُ، فقد أحسست بالرّمال تمتص سُمّيتي، تنفّست بعمقٍ وودت لو أظلّ العمر كلّه هكذا، تواشجت والبحر حتّى أحسستُني جزءًا منه، من صفائِه ومن زرقته العذراء.

اقتعدت الرّمال وسلّمت بصري لزرقة المياه، بقيت على هذه الوضعيّة ساعاتٍ لم تنتشلني منها إلّا متسوّلةٌ، صفعني الواقع بسؤالها:

  • دْوْرِي مْعَايَا أَبْنتي بْشِي بَركة. أجبتها:
  • الله يسهل أَلالّة.

تابعَت سيرها وتابعتها بنظري حتّى تلاشت فلعنتها في سرّي، رأيت كلبًا على مرأى بصري يداعب آخر، فتساءلت لو غدوت كلبةً هل كان ليكون لوجودي معنى، لستُ أدري! طردت الفكرة وأخذت أبحث عن شيء يلهيني عنّي فقد غدوت طُفيلية لا أتغدّى إلّا على المُتعات السّاذجة، كنت أنتظر مجيء النّوارس ليخفّف وطأة وحدتي، أعشق صوتها الذي يأخذني بعيدًا إلى إيثاكا، إلى اللّامكان، اللّازمان، حيث أطفو بحريّةٍ، حيث أنسلِخ عن ذاتي، عن معتقداتي وعن مبادئي وأجدني عاريةً أمامي، خفيفة الوزن كقشّة أجْلًتها الرّياح عن بني جلدتها! أسلمت نفسي للبحر وقلت أخاطبه: ابتلعني واجعلني زبَدًا يعلو أمواجَك. تراقَصَت قصيدة المصريّ محمد أبو العلا أمامي حين قال عن البحر:

قَصَدتُ البَحْرَ كي أشكو

     وفي الأحشاءِ أحزاني

فمَدَّ ردائَهُ الرَّمليّ

     قال اجلس وحيّاني

بدأت الأمواج تعلو وتنتهي عند قدميّ، داعبَتْها بغزلٍ، أحسست باحتياجي لفنجان قهوةٍ من جديدٍ، استدرت أنقب عن شاحنةِ قهوةٍ، طلبتُ espresso مزدوجًا بدون سكّر، آهٍ كم أعشقها سمراءَ مُرّةً، اقتعدت الرّمال من جديدٍ، أزلتُ نظّارتي وتركت نظَري القصير يسرح، كنت أشعر أنّ هناك تواصلًا ضمنيًّا بيني وبين البحر، كان يخاطبني، يجذبني إليه، فتساءلت إن كانت رغبتي في العيش أقوى من جذب البحر لي، لست أدري أأذعن له أم أظلّ غارقةً في روتين حياتي، لست أدري أنّ قرارًا مصيريًا كهذا أخذ منّي وقتًا غير هيّن، ظللتُ أفكّر وأفكّر حتّى تولّدت لديّ رغبةٌ في أن أرجع إلى المكان الذي أمضي فيه لياليّ، أفتح دولابي وأستخرج ما قد تسعه حقيبة ظهري ثمّ أخرج على غير هدًى، دون بوصلةٍ ودون تخطيطٍ مسبقٍ.

كنت أرغب ببساطةٍ في أن أختفي، أن أهرب من وجودي، فقد تعبت من لعب أيّ دورٍ في حياتي. قبل أن تأخذ منّي الرّغبة مأخذها تلبّدت السّماء، كانت حقًّا تواسيني، أخذ المطر يمتزج مع البحر، عبّرت قطرات المطر على قدرتها في الامتزاج  مع  البحر بكل  تلقائية، بدأت أزيل ملابسي قطعةً قطعةً حتّى أصبحت على الهيئة الآدميّة الأولى، خطَوت إلى الأمام منصاعةً لصوت البحر “اقتربي” فاقتربت إلى أن أصبَح يلامس وجنتيّ، أغمضْتُ عينيّ، فأَنا -حسب ظنّي- أجبَن منْ أن أواجه قراري، ثمّ غطست أملًا في أنْ تبتلعني أحشاء البحر.

 

نسيمة حيفى