أحلامُ نساءٍ خائفات!

 

كَانَتا قد أغلَقَتا البابَ قبلَ المَغربِ بقليل.

قالت “فطّوش” لـ”مامة”: من يغلق بابَهُ يأمَنُ شَرّ العالَم، فأجابَتْها: يبقى إذنْ شَرُّهُ هُو.

كانتا تتبادلانِ أحاديثَ كهذهِ لتمضية الوقت، وأحيانًا بعض الأهازيج من أيام الشّبابِ المُشرقة.

-أُسْكُتْ لماذا تبكي؟ دَع البكاءَ لي…

تزفِرُ عندها الأخرى وتحرّكُ رحاها، أو تنظرُ للفراغ. يكونُ زوجُها قد زارَ خيالها ووقف هناك مستمعًا إليها.

-أنْظرُ لحظّي وكيفَ طوَّحَ بي.

تحملُ “فطّوش” طِفلَها على ظَهرها، ويتعلّق أولادُ “مامة” الثلاثَة بها مِنْ كُلِّ صَوب. إنّهم لَيسوا صغارًا لكنّهم خائِفون. البارحة أيضًا سمعوا أصواتَ قنابل. قال لهم أصغرهم: سوف تسقط علينا السماء، وكان يقصدُ السَّقفَ الطيني فقط، لكنّه لم يسقط.

إنّ الحياة على القليل تعلمُهُما الكثير. ينفدُ الملح ولا بأس، ينفدُ السكّر وما شأنُنا به. تخرجان معًا نهارًا في محيط البيت وتهتمّان بالدجاجات، أمّا البقرةُ فقد ذهبت.

قال لهما الجُنديُّ: أين أحمد؟

حرّكَت “مامة” رأسَها يمينًا ويسارًا ليفهموا أنّها لا تعرف. كانَ ابنُها الأصغرُ على ظهرها وقد بال منذ بعض الوقت. صرخ الجنديُّ مرّة أخرى: أحمد، زوجكِ أينَ هو؟

الكثيرُ من الكلماتِ العربيةِ التي لا تفهمُها، وبكاءُ “فطّوش” الذي لا ينقَطِع: أين أنتَ يا أخي؟

إنّه حيثُ يريد، أمّا البقرةُ فقد جَرّها الجنود. رفَسَتْ أحدَهُم فقهقه الأطفالُ فجأة.

-أُسْكُتْ لماذا تبكي وتفسد منديلَك…

أحمد كان يفهمُ أهازيجَ الريفِ أيضًا. قال لأختِهِ “فطّوش”: تستطيعين الغناءَ كَيفَما تشائِين، ولن تتزوجي ذلك المُخَنَّثَ بالنّهاية.

صَمَتَتْ “مامة” ونظرتْ للأرض، وفي البعيد سمعوا نباحًا متقطعًا. قالت “فطّوش”: ليس مُخنثًا، هكذا يرتدون ثيابَهُم في المَدينة.

الكلامُ الذي ينتهي ببضْعِ صَفَعات. تزوّجت “فطّوش” بعدها برجلٍ آخر تمامًا، وقالت لـ”مامة” يوم الزِّفاف: لقد قَتَلَنِي أخي، ولكنَّ كُلّ شيء يَمُرْ.

تضغطُ “مامة” الآن على الباب مرّة أخرى لتتأكد من إغلاقه. لقد رَحَلَ الرِّجال. قال لها أحمد وهو يُقَبّل جبينها: إذا حاولوا لمسَكِ اقتليهم واقتُلي نفسَك.

إنّه رجل يعرف كيفَ يَغْضَب، أمّا هي فتفكِّرُ في أعماقِ ذهنها بأمورٍ لا تعرفُ كيفَ تَصوغُها. تضعُ له التين والخبز في كيسٍ قُماشيّ حين يأتي، وتَصْبِرُ على سماعِ شَكاويه.

-يريدونَ أن يَهزِموا كبرياءَنا، لكنّهم يَحلُمون.

يحلمونَ أو يحلمُ هو؟ إنّ الأسئلة لن تنفع أحدًا، ويبقى أنَّ الأهمّ هو أنْ تواصِلَ ما تَفعَلُه. يأتي زوج “فطّوش” أحيانًا أيضًا ويقول كلامًا عن الأحلامِ والهزائم. تبدو هي عندها كطائرٍ مذعور، وتَوَدُّ أن تفعل كلّ شيء بسرعةٍ كَي يَرحل.

-دعيني أُقبِّلُ الولَد.

-قبِّلْهُ واذهب.

إنّها قِصّةٌ عن متمرِّدين، ولا داعي إذنْ لأيِّ مشاعرَ جانبيّة. كانَ الرّجال مطاردينَ وكانوا يَهربون، أمّا النساء فينتظرن. يسمعنَ أخبارًا سيئة أحيانًا، أو مجرّد إشاعات: إنّهم يغتصبونَ النّساء ولا يلمسونَ العذارى، إنّهم يقتلونَ الصبيان كي لا يكبُروا مقاتلين.

تكون “فطّوش” عندها قد وضَعَتْ يدَها على قلبها مئة مرة، أمّا “مامة” فلا بأسَ بالحديثِ عن سِرِّها: لقد كانَتْ شاعِرة.

طبعًا، هذا ليس وصفًا سهلًا لامرأةٍ أميّة. حصلَتْ في صِغَرِها على أحلامَ غريبة وإغماءات وحالات شرود غير مُبرّر. جدتُها قالت إنّها ممسوسة، وغيرُ مؤذيةٍ لأنّه جِنّي مُسلم. وبعدها حَصَلَتْ على سخريات أيضًا: “مامة” التي يرافِقها جِنيّ، وكان هذا وصفًا موفقًا تقريبًا، فما هو الشِّعر في النّهاية؟

تضعُ الأطفالَ على فراشِهم، وتقول بأنّها ستحكي لهم حكايةً طويلة. تتكوّر “فطّوش” بجانبهم أيضًا وتسألُها: في هذا الخوف؟

فتجيبُها مُتَجهِّمَة: في هذا الخوف.

بالخارج يكون الصّمتُ ثَقيلًا. تُقَرْقِرُ بطن “مامة” قليلًا فتبدأ حكايتها: ذاتَ مرّة، ذاتَ مرّة، ويَرُدّ عليها الأولادُ بالصيغة المعتادة: ماذا حَدَثْ؟ ماذا حَدَثْ؟

تستحضِرُ هي صورةَ فتاةٍ جميلةٍ في قَصر، ورجلٍ يقفُ أمامَ مرآةٍ ويَبكي، ويكونُ عليها فقط أنْ تعرِفَ ما حدث. تنظُرُ إلى ملامِحِ “فطّوش” الحزينة وتحكي. يكونُ رأسُها بعدَ حينٍ ممتلئًا بتشبيهاتٍ كثيرةٍ وجمل لا يمكنُ النّطقُ بها، ويضغطُ هذا على قلبِها بشكلٍ مُؤلم.

-يمكِنُ القولُ إنّ هذا الرجل كانَ نهرًا.

وعندها يمكنُ مواصلةُ الحكايةِ بشكلٍ عاديّ، أمَا “فطّوش” فتلتقِطُ الجُملة وحدَها. تتلاقى عيناهُما مطولًا، وتفكِّرانِ معًا بالزّمَنِ الذي يَمُرّ، والرّجال المختبئين في القلب. يكون الأولادُ عندَها قد اندَمَجُوا في جَوِّ الحكاية، فتقول “مامة” بصوتٍ مَشروخ: وكانَتْ الأنهارُ كُلّها تَجري.

 

 

هدى الشماشي، الحسيمة