إلى “براءة أمّي الأزليّة”!

 

هو وداعٌ مؤقت لبضعة أيّام، لا أقل ولا أكثر، وبعدها سأعانقك طفلًا صغيرًا، سأجنح إليك فأنت وقت السّلم في معمعة أخوضها ضدّ شبابي، سأرنو إليك، ولدك البارُّ أنا، وحضنك وفيّ بهيّ، دائمًا وأبدًا، سيبقى وأبقى تحت وطأتِه.

في غيابك تقسِم الغرابة ظهري، أفقد عنواني نحو ذاتي، ينكرني التّاريخ، يأبى، ويرفضني رفضًا مجحفًا، حين أولّي دبري لك ينبثق ليلي موليّا خنجره السّميك، في عناقنا الأخير الذي يؤرخ للوداع، وإن مؤقتًا كان، وإن ضروريًا كان، فإنّ فيه من المشقة ما يردع جيشًا عاتيًا، في الكلمة الأخيرة بيننا أخِرّ كاملًا، أموت في بسمتك الممتزجة بلمعان عينك اليسرى، تأسرني نظرة أمي وبراءة أمي الأزليّة، لا شيء يصف أمي وكل وصف لا يعدو سوى أن يكون قلّة احترام.

حين نفترق، وإنْ لبضعة أيام، وإنْ ضروريًا كان الفراق، فإنّ الجحيم يقتات مني، ولا شيء يشدّ أزري، وأحير في معظم أمري، لا أخاف على العمر إبان بعدي عنك، أريده أن يمر مسرعًا، أريد لعمري أن يفر مسرعًا ولا يلتفت، لا أخشى انقضاء العمر، في كلّ لحظة بعد عنك، ولا زوال الأمر، ولا أجزع لنازلة من النّوازل، لا ينفك نصف عقلي في التّفكير بك، والنصف الآخر يخِرّ منشغلًا بتصوير مستقبل فيه نحنُ بصفة الأبديّة بما تحمِله من دلالةِ وعي وعمق وتدبّر.

تقضي السيارة على الطريق إربًا إربًا، ونبعد بميل ثم بآخر وهكذا، أميل بعد كل ميل طريق نقضيه، أو أقضيه مجبرًا، أتجرع الخسارة مكرهًا، ويطفو لون الغرابة على سطحي، أتقهقر، وأبدو سطحيًا أكثر فأكثر، أصفرًا شنيعًا، وهذا لون الغرابة.. ألاقي محنتي ولا ألاقي مشقّة في تقبّلي مهزومًا، لا أحد يظفر بالرّبح في حربِ حزنٍ يسبّبها فراق الأمّ؛ ولو مؤقتا كان، وإن ضروريّا كان!

لرغيف أمّي نكهة النّسيم العليل البارد، لرغيف أمّي إسفنجيّة تعزل البُأس من حياة رديئة، وكلمتها تصيب قلبًا جريحًا فيحيا، حينما تربّت أمي على كتفٍ فإنه يصمدُ راسيًا، ولمّا تطبطب أمّي على اللّوعة بين ثنايا ذاتي، فإن ذلك يذهبُها ويسري بها إلى براثن الضّياع.. في أمّي أبصر حبّ الإله وعظمته، وأمّا عن الكيفيّة التي تدير بها الأمور فإنّها قد تستعصي على أحد أشدّ المدراء مهارةً، بين يديها يلتقي العالم بأسراره ومنعطفاته كلّها، وفي راحة كفّها تذوب الهموم وتكمن الأدفاء، تعصر أمّي الفشل مشروبًا بهيجًا، وتعجنُ المطبّات خبزًا أسمرَ فيه رغد العيش وصفوُه، أمّي حجّ مقدّس، ومعجزة الرّب الأسمى، تُدخل أمّي فؤادي في جيبها محمّلًا فتخرجه أبيضَ من دون سوء، أختزل الفنّ في نظرتها الأخاذة وسواد عينيها الحليمتين، وفيها الإلهام كلّه وعنفه وجلّه! في وصفها أنشد محمودُ شعرَه. وأصبو للملموس وغيره، وأرى بعين الإِله ما ينطوي عليه الكون من شغف، بجوارها ينبثق الشغّف كماء في صحراءِ قلبي، من خلال عينِها لا أُخدع بأي سراب عابر، وأعبر الأمصار بموهبة رحّالة، فيها من القدسيّة الشيء الكبير، ومن الحبّ العمرُ المديد، ومن البراءة فدّان قمح ذهبيّ لا يحدّه بصر، أريد قصّ عمري وأن أزيدها منهُ، وقتئذن سأكرههُ إن تجرّأ وفكّر أن يمّر مسرعًا.

محمّد أشرف الشّاوي، الدّار البيضاء