حساء الفِطْر

بصل، ثوم، مرق، والكثير من الفطر هذا كل ما يلزمني لتحضير حساء الفطر اللذيذ، يذكرني هذا الحساء بأيام خلت حيت كنت والعائلة نتناول عشاءنا سويّة، حول مائدة خشبيّة عتيقة الطراز، نتبادل أطراف الحديث، تحت ضوء مصباح خافت، تعلو قهقهاتنا بعدما يلقي أخي نكتة، نكات أخي غبية لكنّها مضحكة، أبي يخبرنا بالمستجدات السياسية. أمّا أمي، وهي التي غالبا ما تحضّر الحساء، فكانت تدندن بصوتها بقايا ألحانٍ لأغانٍ قديمة، وعندما يفرغ احدنا صحنه تبادر فتملأه بالحساء الدافئ، لم تكن تعلم أنها تملء قلوبنا بدلًا عن صحوننا بالدفء، أما أنا فكنت أجلس معظم الأوقات صامتة أتناول حسائي بهدوء، كنت أراقب تفاصيل صغيرة، تعابير وجه أخي، تقطيبة حاجبي أبي، أصابع يد أمي النحيلة وعروقها البارزة، و رغبتها الشّديدة في إسعاد الجميع، كنت أحب تلك الأجواء، وأتمنى ألا ينتهي المساء، أما الآن فأصبحت مجرد ذكريات وصور تأتي بين الفينة والأخرى، تؤنس وحشتي وتلهيني عن حاضري المرير.

اليوم أحضر حساء والدتي، أتذكر يوم علمتني الوصفة كنت أراقبها في المطبخ وهي تقوم بإعداده، قالت لي ذات يوم سوف تحظرين هذا الحساء لأسرتك الصغيرة، لم تكن تعلم حينها أنه لن تكون لي أسرة لا كبيرة ولا صغيرة، لم تكن تعلم أنني سأقبع وحيدة في هذه الخربة، أتخبط من مشكل لآخر، أقتات على عفني، ألقي الشتيمة على الأيام وعلى سخرية القدر. غادرتني يا أمي فغادرت معك روحي، غادرتني وأبي وأخي، لم يتبق لي منكم سوى ذكرى المساء، سوى رائحة الحساء، بعض الصور المتلاشية، وأصوات في ذهني لضحكات وحكايات ودندنات.

هذا اليوم خاص، أحيي فيه ذكرى قديمة، استيقظت باكرًا، فتحت عينيّ، لازالت بقايا حلم مزعج تدور في عقلي، فقد نمت كثيرًا، أكثر مما ينبغي، أداوي كِلَامِي بكثرة النوم، أنام  اليوم جله أو كله لكن يجب أن انهض الآن، دش دافئ سريع، فطور صحي خفيف، شريحة خبز أسمر، جبن بلدي و زيت زيتون وكأس شاي معطر، كل ما أرجوه الآن هو تناول فطور صحي، سئمت من السكريات، من المعلبات، سئمت من رائحتي النتنة، أريد الاستحمام لكن لا أقوى على النهوض من مكاني وكأن جسدي مشلول، بل عقلي مشلول، لا أستطيع التفكير أبعد من فراشي، كل ما أفعله هو النوم و البكاء على الماضي والحاضر فلا مستقبل لي، اختلط حاضري بالماضي، أنذب سوء حظي أبكي قلة حيلتي، ذلك الشريط يمر أمام عيني كل صباح، أرغب في تحطيمه، لو فقط أنام، لا أريد أن أتذكر، لا أريد حتّى أن أستيقظ، أريد فقط أن أتناول حساء فطر دافئ في المساء.

بعد تعذيب نفسي بكثرة اللوم انتزعت جسدي من الفراش، حافية القدمين والأرض باردة، كانت أمي لتحضر لي شبشبي آه، أمي الحنونة، بحثت عن علبة سجائري، استغنيت عن فكرة الإفطار الصحي، سأدخن سيجارة واحدة ثم أذهب للسوق كي أشتري الأغراض من أجل الحساء، لا أستطيع التوقف عن التدخين، أقتل نفسي ببطء شديد وكأنني أتلذذ بمعاقبتها، بل يجذر بي ذلك فأنا أستحق العقاب فلولا أنانيتي لكانت أسرتي اليوم على قيد الحياة، الوقت يمر بسرعة، لم ألاحظ أنني دخنت أربع سجائر واحدة تلو الاخرى تحترق حنجرتي باحتراق كل سيجارة، حتّى أصبحت أتنفس بصعوبة، ارتديت جلباب أمي، ثم خرجت مسرعة إلى السّوق، اقتنيت كلّ ما يلزم من خضروات، و توابل، عدت للمنزل بعد بضع ساعات من التّسوق، دخلت المطبخ أخرجت الخضروات من الأكياس، غسلتها كما كانت أمي لتفعل، قطعت الفطر مكعبات، والبصل والجزر، وضعت كل شيء في القدر، كان الوقت يمر دون أن أشعر، كنت أنتظر اللحظة التي تنغمر من القدر رائحة الحساء، لعلها تحيي أملا في نفسي، أشعلت النار على القدر وأضفت المرق، كان واضحا أن يداي ترجفان، شردت لم أنتبه ففاض المرق عن القدر، صببت أكثر مما يجب، ليست مشكلة فسأحصل على الكثير من الحساء، ما يكفي لأسبوع، جلست على الكرسي أنتظر نضوج حسائي، لم يتبقَّ سوى مكون واحد لكن سأتركه للآخِر، بعد حوالي ربع ساعة بدأت رائحة تنبعث من المطبخ، نعم إنّها رائحة الحساء، ليست مثل رائحة حساء أمي لكنها شهية، وهذا وقت مثالي لإضافة مكوني الأخير، أخرجت الزجاجة بحذر من جيبي كان قد حذرني البائع من أن تنكسر فحرصت عليها، قال بأن السُّم الذي بداخلها فعال في قتل الحشرات في منزلي، هذا هو المكون الذي لم تضفه أمي في حساءنا، هذا هو المكون الذي سيلحقني بعائلتي فأنا أشتاق لهم، ربما يمكنني الاعتذار لهم؛ لأنني لم أكن في بيتنا يوم الحادث؛ لأنني صرخت في وجه أمي وهددتها بترك المنزل ورغم ذلك تركت لي صحني ممتلئًا في المطبخ، وغَطَّتْه بمنشفة كي يظلّ دافئًا حتّى أعود، لأنني لم أستطع إنقاذهم، لأنني لم أكن قريبة، ربما يمكنهم مسامحتي، ربما يمكننا تناول الحساء مرة أخرى…

صببت الزجاجة كاملة، حركت الحساء، أزلت القدر من فوق النار، ثم صببت صحنًا لي، جلست إلى المائدة، لأتناول عَشائي الأخير، فجأة أسمع طرقًا قويًا ببابي، من سيأتي في هذا الوقت قررت تجاهله لكن يستمر بالطرق وينادي بإسمي، نهضت مسرعة لأتحرى من ثقب الباب عن هوية الطارق لكنني لم أنتبه لغطاء المائدة ملتصقًا بسروالي فسحبته معي، لم أستوعب حتّى وجدت القدر والصحن في الأرض والحساء ينسكب منهما، توقف الطرق في الباب فتحت فوجدت رجلًا كان يبحث عن الجارة فوقي بنفس إسمي فاختلطت عليه الشقتين، يا إلاهي ماهي الاحتمالات أحتاج للتدخين، كانت السيجارة ترتعش بين أصابعي بينما أنظر عن كثب إلى الحساء ينسكب ويسيح على الأرض، ربما أستغني عن فكرة العشاء أيضًا وأخلد للنوم سأترك التنظيف للغد، ربما أرتاح من بعض الحشرات التي تزعجني في المنزل.

 

سوميّة المسيّح، مكناس