غربةُ عصفور

 أسدلَ اللّيل ستاره. يدفننا الآن بين أوراقه السّوداء وقمامات شوارِعه، مرتعِبون نحنْ من حجم سوداويّته الحالكةِ على أجسادِنا النّحيفة، لا مآل نلوذُ إليه غيرَ الشوارعِ، شرَّدنا هذا الكائنُ العدُوّ.. آه، آه وما تنفع الآهات والتّحسر؟، اللّيل يجلسُ على ظُهورنا، هذه المتألمة، المتكسّرة أصلًا، نعم الليل…

– آخ آخ ما هذه السّخونة آآآخ آآآخ نتِنة، تْفُ تْفُ تْفُ…

استيقظ الكبيريّ مذعورًا، قلقًا، إثر سائلٍ ساخنٍ، سائلٌ نتنٌ أُفرِغ على وجهِهِ الشاحبِ، المُتعبِ من أثرِ البردِ وقساوةِ الليل، استفاق يسبُّ ويلعن هذا الوجود، وهذا الشرر المتناثر والمتطاير من تموّج الزمن على كلِّ العرب.. أسرع تُسابق خطاه الرياح، لاهثًا خلف الكلب الذي كان بعدما أَفرغ مثانته على وجهه قد أطلق عنانَ دفعِه الرُّباعي يأكل مسافاتِ الأرض التي ستلفظهُ في دروبِ المدينةِ، متشعبةِ المسالكِ، باحثًا عمّا يقمعُ به عصافيرَ بطنِه الصارِخة، تمامًا كما فعل الكبيري وهو يقتفي أثرَه، مستقصيًا بدوره ما يمكن أن تجودَ به قمامات الشوارع، علّه يجد ما يسَكّن به بكاءَ أمعائِه.

بعدما أضناه الجوعُ، أقعده تعبُ المسافات الطويلة بين الدّروب والشّوارع، جلس ليستريح، على رصيف شارع ابنِ خلدون المهترئ، الغارقِ في التّعب اللّيلي، المعتّم جدًا في جوهره، قرب مقهى النّهضة التي لا نهضة فيها ولا منها نُهوض، هو يستريح فقط، لكنّه، وتحتَ ضغطِ معدته، مدّ يدَّه صوب المارة، علَّه يجدُ من ينثر على شفتيه بسمة بدرهم، أو كسرةَ خبزٍ تسدّ رمقه، أو ابتسامة فقط، إلا أنّ الابتسامة أضحت عُبوسًا، والوجه أضحى كاسفًا، حينَ فوجئ الكبيريّ بركلة كاسرة على يده التي كادت أن تذهب ضحية بغلٍ لم يستوعب جسده العُنفويّ روح الإنسان بعد، “نهض” الكبيريّ بسرعة البرق، ومنكباه يلتقيان مع كعبيه، فارًا بجلده أو بجسده، ناجيًا من بطشِ صاحب المقهى، صارخًا من قحِفِ خوفه: ذاكَ هو معنى النّهضة، ذاك هو معنى النهضة…

 نعم ذاك هو، انهض يا صديقُ انهض، وانجُ من بطش المستبدين، المتسلطين، الجائعين، الظامئين للمال رغم شربهم اللامتناهي منه، الذين يتخذون من قمع الطّيور حلًا بديلًا، طيور في سماوات الشوارع مقموعة ” ليس لها أن تحطّ على الأرض”، طيور لا تنعم بحضن أمٍّ يدفئ الصدر من شدة برد الليالي العاصية، القاسية على الضلوع التي أضحت هشّة، هزيلة، ميّتة، قاسية على القلب، غيم يبدّد الروح ويهدمها… طيورٌ لا تنعم برغيفِ خبز، طيورٌ لا يهنأ لها بال ولا قلب بغير التخدير، أملًا بالنسيان؛ نسيانُ الليل كيف يمر، ونسيانُ ليلتهم الأولى. يجهزون أنفسهم لقساوة يومٍ قادم، سلاحُهم جعبةُ لاصقٍ لإصلاح عجلات الدّراجات الهوائيّة “سيلسيون” وكيس بلاستيكي صغير، طيور لا ترى شمسًا قط، بل لا تعرف الصّباح من الليل… فرّ الكبيري وهو يسبّ ويلعن صاحب المقهى، الذي لم يحدّد بعد موقعه من الإنسانية، الذي لم يعرف معنى الورود التي لا يرى فيها سوى بقايا المجتمع، خطايا اللّهفة والشّبق والنّشوة، تزعج الزبائن كلما اقتربت من المقهى، وبهذا تهدّد استثماره الكبير الكبير، استمر الكبيري في السّب والشتم إلى حين اختفائه بين الدروب، تنهد قليلًا حين وصوله إلى حي الأمل، ليستريح ثانية، تمدّد تحت حائط مترهل كاسف يتخلله لون الصفرة كما الرصيف، كما العربيّ، الذي بدا كاسف الوجه، منهك الروح والجسد، يتصبب عرقًا وجسده ينفث رائحة في الفضاء كما لو أنه ينفث أحزانه ومعاناته التي تجمعت طوال ردح من الزمن،  ملابسه الرثة، المثقوبة، خطت عليها خريطة وطنٍ لم يستطع بكلّ ما يملك من دنيا أن يوفّر مأوى لهذا المشرد الصغيرِ.. الصغير، ولكنّه استطاع أن يوفّر السّفن والموانئ، و يرسل الثروة إلى الشّمال بالمجّان… وحده دفاعًا عن نفسه، عن استمراريته، يدافع  وحده، يصرخ ويعوي ويهذي، من شدة البرد وقساوة الدهر على الضلوع، متكسر الأجنحة، يجاري الزمان بلقمة، ربما مسروقة، ربما مطلوبة، لا يهم، المهم ضمان حقّه في الاستمرار، هذا الشّقي، الغارق في الجحيم، وفي البؤس، وفي الليل، وفي الوحل… الذي طالما ردّد سؤال محمود درويش القاتل:

 “أَأرضُ البشر لجميعِ البشرِ

  كما تدّعون؟

  إذن؛ أين بيتي الصّغير؟ وأينَ أنا؟”

نعم أين هو؟ أين هذا الفتى من وطنٍ “لا يساوي أكثر من حذاء”؛ نعم هو كذلك، حين يكون الإنسان حافيَ القدمين، ولا يساوي أكثر من غطاء حين يصير المرء عاريًا، يصارع الطبيعة وحده ليل نهار، ويموت ببطء… أين حاضره وأين غده، أين موقعه من المدرسة، من القسم، أين صفّه، أين طاولته، وأين أقلامه… أين؟ نعم غريب بين تشعّبات هذه المدن الغريبة، هكذا قال الكبيريّ لي، وأضاف: نعم، كلّهم يعرفونني لكنّني غريب، غريب إلى أن يتنفّس الصباح ويفرجَ عني، إلى حين أن أرى الشّمس شمسًا، وأدركَ أنّ الليل، حتّى اللّيل، لهُ قمرٌ يزيّنه…

 عبد الهادي شِردال. مكناس