حكايات سقفٍ وحيد

 

قبل النوم، أتفرّس في سقف بيتنا، يكون لونه أبيضَ في النّهار، لكنّه يلتحف رماديًا قاتمًا الآن، أنظر إليه مطولًا، أحاول فهم أحاسيسه، تراه يشعر بالبرد والحرّ؟ بالخوف والوحدة؟ أفكر فيما لو كنت سقفًا، لا أفعل شيئًا طوال اليوم، سوى التّحديق في أرض لن تعانقني يومًا.

أغطي الناس من قيظ الشمس وأقيهم من لفحات البرد، وأحيانا أحميهم حتّى من أنفسهم. لكن كل ما ألمحه منهم هو رؤوسهم كلما هبوا واقفين، لا يسعني مشاهدتهم كاملين إلا عندما يكونوا متكئين دون شغل، أو عند المرض، أو وقت النوم، لا يتطلعون إليّ وقت انشغالهم، لستُ سوى جماد دون قيمة في حياتهم، شيء مُسلّمٌ بوجوده. وغالبًا ينال الليلُ والحزن والتّعب من كبريائهم النّهاري، فأغدو لوحًا يخطون عليه أحلامهم، ويمسحون منه أخطاءهم، بل ويصمّمون عليه مشاريعهم، متخيّلين أنفسهم أكثر غنى، أكثر جمالًا، وأكثر سعادةً، وحين يبلغون من الحزن عتيّا، يتوجهون إليّ لإنهاء معاناتهم، كم أمقت تلك اللحظة، يشترون حبلًا رخيصًا، بنيّ اللون، قبيح الطلعة، يبدو كما لو أنه ينتمي لعهد الفراعنة، ثم يعقدونه بأحد أطرافي المتدليّة. لا تستغربوا اهترائي المفاجئ، أو سقوط مصباح بغتة، إنّها طريقتي للاحتجاج على القرار والمنظر المشينين.

ليس سهلًا أن تكون سقفًا بعد كلّ هذا، فأنت وحيدٌ طوال الوقت، ما من مؤنس أو حبيب، حتّى الجدران، تلك الخائنة، تأبى الحديث إليّ، منهمكة هي طوال الوقت في التّنصت والتّجسس على الأحاديث. توليها ظهرك ظنًا منكَ أنّها تسندك، لتطعنك من الخلف دون تردد، مثل الأصدقاء تمامًا. كلاهما يعملان بنفس المبدأ.

في جعبتي الكثير من قصص الغدر، حتى أنّني حفظت التكتيك، وصرت قادرًا على استشراف مدة صلاحية العلاقات التي تنسج تحت مرآي. لا يخدعنّكم منظري السليم والمعافى، فلوني الأبيض هذا، يخفي تحته طبقات متعاقبة من الألوان والتجارب والآلام، تلك الثريا الزاهية في الصالون مثلًا، كلّفتني جزءًا غاليا من جانبي الأيسر، لازالت ذكراه حيّة للآن، حبات إسمنت ورمل، عاشت معي مدة ليست بالهينة، فقد جمعنا قدر واحد، منذ أن قرر مالك البيت الذي لا يسعني أن أطلق عليه سابقًا أو سابق السابق، فقد تلاحق على السّكن في هذا البيت العشرات من بعده، المهم فقد انضمت إليّ عندما اشترى المالك آنذاك البقعة الأرضيّة المحاذية له ليوسع من مساحة المسكن.

بعد أن ارتفعت الجدران، والتحمت بباقي أطرافي الجديدة، مرت الأيام الأولى ثقيلة وغريبة، فالمياه لم تزل هناك بكل فضولها السائل، غير أنّها وبعد أن جفّت واختفى الحاجز المبلول، استطعت أن أبني نوعًا من الألفة مع امتدادي هذا، لا سيّما بعد أن سمعت حكايات حبات الرمل المسكينة، هي التي اعتادت العيش تحت الشمس الذهبية، تعانق مياه البحر المالحة ليلَ نهار، تتبادلان أخبار المدّ والجزر، وتتناقلان قصص الحوت والنّبات.

 كانت تعيش بحريّة مطلقة، تتخذ من الرياح بُراقًا، فتسافر أينما شاءت، رأت الصحاري القاحلة، ومرّت خلال رحلاتها بجبال شاهقة متعجرفة، تعجز هي بكلّ نعومتها وسلاستها أن تضاهيها حجمًا، لكنّها تعلم في قرارة نفسها أنّ تلك الطبقات المتراكمة من التراب تحسدها على نعمة الحركة، على تلك الرقصات التي تؤديها بمعيّة الرياح.

لم يخطر على بالها يومًا أنّها ستسجن، وتغدو أسوء حالًا من تلك التّرسبات البنيّة والحمراء، وأنّ المياه التي كانت يومًا صديقة، ستتكالب عليها وتحرمها من لذّة الانسياب، لتحولها إلى هيكل قبيح، خشن الملمس، صلب القوام يتناقض بصورة صارخة مع كلّ صفاتها السّالفة، تتزاحم فيه خلاياها وتتكدس إلى جانب غرباء لم تقابلهم يومًا.

احتضنتها إليّ مواسيًا ومؤازرًا، فأنا القائم اليوم أمامها، لا أعدو أن أكون مجموعة من الأشلاء المتناثرة اجتمعت في ظروف فوضويّة، بعضها محظوظة قادمة مباشرة من الطبيعة استطاعت أن تعرف معنى البريّة الأولى، وأخرى طوّعها الإنسان بآلاته فعدّل فيها وشوه معالمها لتلائم معاييره وأطماعه، هذه الأخيرة تأتي خانعة مستسلمة، تبحث عن مرفأ تحط عليه، لعلها تهنأ بلحظة راحة أخيرة.

الإسمنت بلونه الغامض الباهت، ليس من النّوع الذي يحتجّ أو يرثي حياةً سابقة، فمنذ يستطيع التذكر وهو محاط بالجدران، يسير ويسير في أحزمة آلية لا تنتهي، يعالج بأدوية كيميائيّة تنفي عنه كلّ صفة من صفات الحياة، يختلط بعناصر جديدة، قديمة، خشنة، ناعمة، ميتة، صناعيّة، وأثناء كلّ دورة جديدة يقطعها على متن أحزمة تلك الآلات الصّاخبة، يسحق ويطحن ويمرّ عبر الفرن، يصاب بالدوار، ينهكه السّفر، ويختنق في تلك الأكياس البنية، تؤلمه أكتاف عمال البناء. لذا؛ وعندما يُرمى الكيس بقوة على الأرض حتى يتمزق أو يكاد، فتخترق أشعة الشمس أو زخات المطر بعض شقوقه. آنذاك يرتاح الإسمنت، ويشعر أنّ الرحلة شارفت على الانتهاء، فكل ما بقي الآن دورات قليلة تجمعه مع الزّلط وحبيبات الرّكام المسننة، وبعدها سيستلقي إلى الأبد، أو لنقل لمدّة غير معلومة في مكان واحد ثابت ومستوي لا يسبب الدّوار.

بالعودة إلى موضوع الثّريا، تلك القطعة البراقة المصطنعة، تتباهى بحبات الكريستال اللامع الذي يتخللها، مغرقة هي في تيهها بنفسها، مالك البيت المعتوه، داخ بانعكاس الضوء على أطرافها، فابتاعها وجدد الجزء الشّماليّ مني، أحضر عمال بناء شوهوا بمطارقهم منظري، بل وحتى كلفوني جزءًا كبيرًا من حبات الإسمنت والرمل التي أضحت فلذة من فلذات كبدي، رأيتها وهي تتناثر على الأرض، ظننتها ستسعد بالعودة لأصلها الأول، إلا أنّها لم تكن لا سعيدة ولا حزينة، كانت لا مبالية، خالية من الحياة، من الألوان، كانت مجرد صخور مصطنعة تتشقق قبل أن تلامس سطح الأرض؛ فالانكسار لم يعد يخيفها. عندها أيقنت أنّ حياتي كسقف مجرد حالة، وأنني بكلّ طولي وعرضي وثُرياتي الجديدة قابل للتجاوز، قابل للموت.

 

سُكينة آيت حمّو. الرّباط