رسائل من زخم الذاكرة

البريد المرسل: 1

عزيزي، لا أنتظر منكَ ردا على رسالتي هاته كما الآتيات. أنا أكتبُ من أجل نفسي، أنانية أنا كما وصفتني في لقائنا الأخير. ذاكَ المساء، حينما خلتُكَ شخصا آخر غير الذي أحببتُ!
حدثتني صديقتي نهلة -التي كُنتَ تَمقُتها-عن الأقنعة المركبة التي يرتديها الرجل لكسب ود امرأة، لم أكن أصدقها، كنت أدافع عنكَ طوال الوقت. كنتُ مصابة بعمى الحبِّ فلم أكن أرى غير الجمال فيكَ.
ها أنتَ الآن أثبت لي صدقَ كلامِها وغبائي المبالغ فيه!
لن أنكُر، لن أنكر كل تلك السعادة التي كنت أحسها لمجرد التحدث إليك. كنتُ قد أصبحتُ شخصا آخر؛ شخص يرى بعين المحب، يتذوق الجمال في كل شيء يصادفه وينتظر الغد بشغف ليعيشه بأدق تفاصيله. كنت أرى الحياة أشبه بحقل توليب بألوان الطيف حيث كل فصول السنة ربيع وكنت أنا الفراش.
صاخبة كانت أحلامي بحجم الصمت الذي كنتُ أسمعه يردد كالصدى وأنا أحكي لك عنها وعن مستقبل لن يأتِ.
لطالما كنتَ غامِضاً في الإفصاح عن نوياكَ. لم أكن أحب هذا الغموض فيكَ. كنتُ أريدكَ مثلما كنتُ؛ ورقة شفافة سهلة القراءة والتأويل. عفويةً، ساذجة أحيانا وصريحة. كنتُ أتخذ الأشياء ببساطة كما قلت لي يوما. أما أنتَ فقد كنت تخضع كلَّ شيء للمنطق. كنتُ أراكَ تعقِّدُ أمورا لا تستحق كل هذا العناء ومع هذا كنت أحبكَ.
حينما تركتني ذاكَ المساء ورحلت، ظللت واقفة لمدة وأنا أحاول استيعاب الأمر. فهمتُ وقتها لما اخترتَ نفس المكَان الذي التقينا فيه أول مرة. لم يكن صدفة كما خيل لي، فقد أردتَ أن تكون نقطة النهاية هي نفسها البداية وكأننا كنا في حلبة سباق الحب وكنتُ أنا الخاسرَ الأكبر. والحق، كنت دائما أخسر في التحديات التي كنتَ تضع قوانينها وشروطها وكنتُ أخضع دون أي اعتراض. ضعيفةٌ كنتُ أمام هيمنتكَ ونرجسيتكَ!
كان يفترض بي أن أذرف دموعاً لرحيلكَ لكنني لم أفعل. كنتُ أنفذ وصيتك وقتها كما قلتها ذات يوم جملة: “لا تكوني
سهلة الانكسار”. لم أكن كذلك تلك اللحظة، تحملت أكثر من طاقتي وها أنا الآن أدفع الثمن.
البريد الوارد: 0
البريد المرسل: 2
٣ أشهر مرت على لقائنا الأخير ومع هذا لازلت أتذكر تفاصيل التفاصيل.
حينما وصلت البيت ذلك المساء، ظللت صامدة قوية لا أحاول التفكير في الأمر. ما إن أقفلتُ علي باب غرفتي من الداخل حتى خارت قواي وانهرت باكية فوق السرير. تلطخت وسادتي بالكحل الأسود القاتم ولم تشفي غليلي كل تلك الدموع. سمعتْ نهلة شهيقي المرتفع فطرقت باب غرفتي بقوة وهي تصرخ: “افتحي الباب، افتحي الباب.” وبكائي يزداد حدة مع صراخها. واصلتْ: “أخبيريني أولا ما الذي حدث فلكل مشكل حل! “.
“لكل مشكل حل”، كانت جملتها الشهيرة التي ترددها كل مرة وكنت أوافقها الرأي دائما. أما الآن فلا حل لمشكلة لستُ سببا فيها!
توقفت نهلة عن طرق الباب للحظة وحدثتني بهدوء: ” عبير رجاءً، افتحي لي الباب هاته المرة فقط!”. أدرت المفتاح لفتح القفل وعدت للسرير آخذة نفس الموضع. دخلت نهلة وجلست القرفصاء بجانب السرير. أمسكت يدي بيدها اليمنى وأخذت تمسح رأسي بالأخرى. كنت أدير وجهي للحائط وأنا مغمضة العينين، لم أستطع النظر في وجهها. لم أستطع التلفظ بكلمة. لطالما كنت جبانة في مواجهة واقعي وكنتَ دائما تقولها لي ممازحا. كنتُ أحس في قرارات نفسي أنك لا تمزح في هذا الأمر وكنت أتظاهر بالعكس. ها أنا الآن أظهر هذا الجبن أمام صديقتي التي تفهمني دونما حاجة للكلام. كسرَتِ الصمت المطبق ب “عمر السبب في كل هذا!”. لم تكن تسألني، كانت متأكدة من ذلك، فقد كانت دائما تحذرني منك ومن تصرفاتك. كانت ترى فيَّ تلك الفتاة البريئة الطيبة، وكانت تراكَ ماكرا ليس أهلا للثقة.
“أنظري في عيني يا عبير.” واصلت. رفعت عيني المنتفختين أنظر في وجهها وانفجرت بكاءً. ضمتني إلى صدرها. وأجبتُ بصوت ممزوج بالبكاء والشهيق: “ترك..ن..ي.. تركني”. قاطعتني: “لأنه لا يستحقك. ولا يستحق دمعة واحدة منكِ!”. ظلت تمسح رأسي وكأنني طفلتها المدللة، ترجتني للتوقف عن البكاء ولم أستطع. حاولت مواساتي بعبارات لم أسمعها حتى، لكن دون جدوى. للحظة أمسكتني من يدي بعصبية وذهبت بي إلى شرفة المنزل المطلة على الشارع حيث تكون حركة السيارات والمارة نشيطة على الدوام وصرخت في وجهي بعصبيتها المبالغة: ” أنظري، الحياة لا تتوقف هنا. الناس هم الناس والسيارات لا توقف مسيرها حتى تصل لوجهتها. الحياة تستمر رغم كل الظروف! ”
رفعت عيني باتجاه القمر، كان بدرا أيضا. لم أستطع تمالك نفسي وبدأت بالبكاء مجددا.
أنا الآن أقف في نفس المكان؛ شرفة منزلنا من الطابق السادس. أنظر لنفس الشارع. أرى نفس الصورة؛ أناس تذهب وتجيء، سيارات تمضي وأخرى تعود، مزامير البعض تؤْرِق الجيران وموسيقى البعض الآخر المرتفع يضفي على المشهد لمسته الخاصة.
تتردد في ذهني كلمات نهلة كالصدى:” الحياة لا تتوقف، الحياة تستمر.”
صحيح أن الحياة بدونكَ استمرت، لكنها استمرت خالية من المعنى.

البريد الوارد: 0
البريد المرسل: 3

“أرنو إلى روحي فأبصرها شفيفة إذا انعكست في مرآة روحك أنكر نفسي.”
لازلت أتذكر هاته العبارة حين بعثتها لي من دون مناسبة عبر البريد الإلكتروني. كنت تختزل مشاعرك في جمل قصيرة عميقة المعنى وكنت أهيم في ألق حروفك وكلماتك كنوطة ضائعة. كنتَ الشاعر وساعي البريد، كنتَ المعلم والجندي، كنت المطرب والسجَّان. وكنت أنا السجينة!

سألتك مرارا بالسذاجة نفسها عن سر نسجك للجُمل بهاته البراعة، وفي كل مرة كنت تكتفي بالابتسام ولا تنطق بكلمة. لم تكن تحب هذا النوع من الأسئلة كما لم تكن تحب الخوض في التفاصيل. كلماتك الموزونة ما كانت تشبع فضولي وغموضك الكاسر كان يؤرقني لدرجة تسيطر فيها تأويلاتي الخالية من المعنى على تفكيري فيدب فيَّ خوف فقدانكَ كنمل هائج.

عمر، لقد تغيرتُ. تغيرتُ كثيرا عن آخر مرة التقينا فيها. لم أعد تلك الفضولية التي تصدق كل شيء، ولا تلك “الطفلة” -كما كنت تنعتني مرارا وكنت أنزعج-التي تؤمن بكل ما يقال. فقد بثثت فِيَّ من حكمتك ما كان كافيا لتغيري، لأصبح بهذا امرأة ناضجة، امرأة ستشيخ باكرا من فرط الشوق لامحالة.
أتذْكُرُ حينما سألتني يوما محاولا إيقاعي في فخاخك المُحكمة: “ما الحب بالنسبة لكِ؟” وأجبتُ بعدما أطلتُ النظر في عينيك:”الحبُّ تعويذة، وتعويذتك أنتَ لا ترياق لها”. ابتسمتَ وقتها ابتسامة ماكرة وقلتَ لي: “لا شك أن الروايات الرومانسية أثرت فيكِ أكثر من اللازم.” لم أشأْ وقتها الدفاع عما قُلتُ فقد كنتُ صادقة. صادقة لدرجة لم أجد فيها بدا للتبرير فحبكَ كان تعويذة يشتد مفعولها حينما يكتمل القمر فأغوص في بحر عميق من الشوق والحنين.
الآن لازال مفعول تعويذتكَ ساريا لكنني أضحيت أغرق في بحور مظلمة من الحزن والتعاسة.
لقد أصبحتُ أحسُّنِي كعجوز في الثمانين من عمرها لم تعد تغريها الحياة ولم تعد تطلب غير الخلاص، خلاص يفكُّ قيود حبِّكَ الآسرة!

البريد الوارد: 0
البريد المرسل: 4

أكتب لك الآن وفي داخلي امرأة أخرى. امرأة أقوى من تلك التي كتبت الرسالات السابقات. امرأة أضحت “عبير” الصلبة القوية المستعدة للمواجهة!
فالبارحة، حينما قررتُ الخروج محاولة الترفيه عن نفسي منكَ ومن ضغوط الدراسة التي لا تنتهي. ذهبت دونما سابق نية إلى الكورنيش حيث كنا نحب الذهاب سويا. تمشيتُ قليلا بالقرب من البحر وأنا أمشط الوجوه الشاحبة المتجهة صوبي. بين كل تلك المومياوات لمحتُ وجهك. فرحت للوهلة الأولى بملامحكَ التي خيل لي أنني بدأت أنساها لكن سرعان ما لفتت انتباهي ذراعك المتأبطة بذراع إحداهن؛ فتاة مائلة إلى السمرة بفستان أسفل الركبتين بقليل وشعر بني طويل. ذعرتُ وتسمرت في مكاني محاولة استيعاب الأمر. أحسستُ وكأن سكينا حادا اخترق قلبي فصعدت روحي إلى السماء مودعة جسدي الذي تجمهر حوله أناس تحسروا كثيرا على شبابي الضائع أو تظاهروا بذلك.
لقد قتلت فيَّ وقتها الأسوأ يا عمر، قتلتَ فيَّ الحب فأدركتُ أن شعرة الأمل التي كانت تجمعني بك تمزقت شعيرة شعيرة، وفي تلك اللحظة انقطعت آخر شعيرة متبقية.
نظرتَ إليَّ بعينين بائستين وكأنك تحاول تليين قلبي بهما وكنتُ أحس بالكلام يتدفق منهما كجدول لكنك لم تنبس ببنت شفة، وقد أشفقتُ عليكَ في الحقيقة أكثر من إشفاقي على نفسي.
صحيح أنني مصدومة بعض الشيء لكنني سعيدة في الوقت ذاته لسببين؛ أولهما رسالتي هاته التي ستكون الأخيرة وبهذا لن أحسني كجدباء تبعث برسائل مكتوبة بالأحاسيس بدل الحبر دون تلقي أي رد.
ثانيهما استنشاقي لنسيم الحرية حد الثمالة بعد فك قيودكَ عني وانعتاقي من معتقل حبكَ القاسي.
منذ الآن سيسلم سائقو سيارات الأجرة وكل من سيشاركني مقصورة القطار من ثرثرتي بسيرتك التي لم أكن أتلفظ بغيرها.
سترتاح نهلة منكَ وقد تقيم احتفالا باذخا تحت نخب الحرية.
وأنا سأجعلكَ بطلا في إحدى قصصي البائسة لأقتلكَ أو أعذبكَ أو أجعلكَ عاشقا سيء الحظ.
سلام.

البريد الوارد: 1

عزيزتي عبير، منذ أزيد من عشر ساعات وأنا جالس أمام الحاسوب أترقب وصول رسالة منكِ بعدما شربت ثلاثة أكواب من القهوة البرازيلية المرة -التي أدمنتها بعد افتراقنا-ودخنت أربع سجائر محاولا بهم التخفيف من وطأة انتظار الرسالة الأخيرة هاته التي تمنيت -بعدما قرأتها-لو لم تصل.
لا تستطيعين تخيل الوجع الذي كنت أحسه وأنا أقرأ كل حرف وكل كلمة وكل جملة منكِ ولا أستطيع الرد. لم تكن الكلمات تسعفني عبير، وكنت في كل مرة أشعر بضيق حاد في التنفس وكأن الأكسجين على وشك النفاذ مني.
حينما رأيتُكِ مساء البارحة استسلمتُ أمام نظراتك البريئة. تلك النظرات التي كنتُ أرى فيها الحب يتدفق كنهر فأرتوي منه كظمآن لم يشرب منذ أسبوع.
صدقني عزيزتي أن القرار الذي اتخذته ذاك المساء كان أصعب عليَّ من نطق القاضي بحكم المؤبد على متهم يقربه.
آه ولو كانت تلك الوسوسات الخبيثة تترك متسعا للقلب وحده ليختار!
عبير، لقد أدمنتُ رسائلك ولا أستطيع تخيل بريدي الوارد فارغا من أحاسيسك المرهفة التي كانت تصلني كهدية عيد ميلاد تذكركَ باليوم الذي صرخت فيه صرختك الأولى. فكيف تقررين التوقف عن بث الفرح فيَّ؟
آملُ أن تتراجعي عن قرار النسيان ذاك وألا تكون رسالتك السابقة الأخيرة.
خالص الحب، عمر.

منال الغافقي