رحلة خلف الأنظار

كانت زهرة عمري حينها تبلغ ميلادها الرابع، لا أجد معنى في الحياة، أراقب الأشياء التي تتحرك، ولا أجد رغبتي تنزاح إلى الجمود..
جارتنا تصاب بالصداع كلما سمعت صوتي، في مجمعها النسائي أعطتني وسام أزعج فتى في العالم، نظراتها المعقدة نحوي كانت تؤرقني، لم أجد فيها معنى، فأنا لم أتجاوز السادسة، في غالب الظن اعترفت لوالدتي بذلك، كانت متيقنة أن ذلك الفتى لن يتغير مهما واجه من ظروف..
توالت الفصول والسنوات، أنا الآن أبلغ الحادي عشرة وأياما قلائل، لا أنزوي في مكان واحد، معتقد الجارة أصبح حقيقة، الطفل الصغير لم ينضج بعد، لا يزال بحاجة إلى ظروف قاسية..
في خضم كل هذه التوقعات، مر عام دون تغيير، يصادف ذلك صيف ألفين وعشرة، في أحد أيامه وعلى غفلة من الجموع انسللت نحو إحدى الكتب، لصاحبه محمود درويش، هذا الاسم مر أمامي ذات مرة، ربما في دروس اللغة العربية التي لم يكفَّ والدي عن تلقيني إياها..
تصفحت الكتاب كثيرا، لقد سقط الفتى في حب محمود، الكلمات تضاجعه من كل مكان، لم أستسغ نظراتي نحوه أول مرة، الوقت مر سريعا لأعود مرة أخرى إلى وسط العائلة..
في اليوم الموالي ترقبت حركات الكل، تسللت مجددا نحو مجموعة من الكتب الأدبية، بحثت كثيرا ثم بدأت القراءة، صفحة.. صفحة.. هذا ينتقي كلمات مميزة، بينما الآخر يخضع كلماته للواقع، لقد وقعت في حبهم من أول نظرة، الرحلة بدأت بكتاب، ثم خطة، ثم هروبٍ ماكر إلى البعد الآخر، في مكان يجد فيه الإنسان راحته دون حاجة لنظرات الآخرين..
الميعاد لم يتغير يوما ما، لا أنسى تذكيركم، أنا ابن حي شعبي، في السادسة صباحا تنطلق أصوات القرآن، وفي الليل يتحولون على وجه السرعة إلى أغاني الزمن الجميل، المتخمرة بالعشق الإلهي، والنظم الذي يثري العقل، والكلمات المتشدقة باللغة الفصيحة والأسلوب المساير لفطرة الإنسان..
لقد كان لمقهى حينا ذوق رفيع، على وجه السرعة أتحول نحوه، لأجدني غارقا ساهيا في سباتي، أتلقى الكلمات، وأقشعر للألحان، كطفل لم يكمل سنته الثانية عشر بعد بدا الأمر كأنه مبالغة، ولم يكن في الأمر مبالغة..
ذات مرة وأنا متكئ على الحائط، ساقط في نشوة الجمال، صادفت جارتنا ليلى التي أصيبت ببعض التجاعيد على وجهها، نظراتها تملؤها الغرابة، الطفل الذي يتحرك أكثر من عجلة الأتوبيس أصابه الشلل، لم يحرك ساكنا، كان ذلك أشبه بالصدمة التي ظهرت على فمها المفتوح على مصراعيه..
السيدة المدعوة ليلى قيد حياتها، لا تدري أن غاية الحياة هي التغيير، لا أحد يتوقف مكانه، خاصة في عالم الحي الشعبي، المكان المتناقض في كل شخصياته، كل يغني على ليلاه، الحركة لا تتوقف، والكلام لا ينتهي، هذا يفتري على أسماعنا حقيقة غير منطقية، والآخر يؤيد فكرته ليطل علينا بمظهر الرجل الذي يفهم كل شيء في الحياة، إنه ينجرف وراء التيار أينما استدعاه..
في تلك الأثناء انتهت العطلة الصيفية، العودة إلى روتين المدرسة أصبح ضرورة لا مفر منها، في البقعة التي تبدأ بالتعارف وتنتهي باستقصاء النتائج، السؤال الذي يؤرق كل الفتيان في عمر الصغر، ما ميزتك، الناس يخلطون بين الحياة والميزة، نتائجك مرتفعة أنت مرحب بك، تتلقى مديحا لا ينتهي، في الوجه المعاكس أنت لا تساوي شيئا، وابل الشتائم تتلقاه من كل حدب وصوب، في تلك اللحظة أنت منبوذ من الجميع، حتى عمك الذي لا يعرف نطق اسم آينشتاين بشكل سليم..
أتذكر جيدا إحدى المشاهد داخل الفصل، قلم وورقة، معلمة تغادر مثقلة كاهلي بمسؤولية الحراسة، لوهلة أصبحت سيد المشهد، طفل صغير يتحول ليحكم مصائر الجميع، كطفل في ذلك العمر كانت مهمة صعبة، أصدقائي تصدروا المشهد، أصبحوا ضحايا، في لحظة صغيرة من الزمن، تركت الورقة والقلم، لم أطق الأمر، من يومها زهدت في كل المناصب، رئيس القسم أو شيئا من هذا القبيل لم يملأ عيني منذ اليوم الذي شعرت فيه أنني قد أتحول إلى شيطان خارج الفصل، قليل من الكدمات لعدم إطاعة سياسة المعلمة، قليل من التنازلات حتى لا تصبح ديكتاتورا بين أصدقائك..
انتهت السنة ومجموعة من الدروس مجانية ألقيت داخل عقلي، كفتى نضجت كثيرا، النظرة المختلفة تغير كل شيء، كل درس في الحياة يجعلك أنت، الاختلافات هي ثروة الحياة، سيرورة الأحداث تقتل فينا أشياء وتحيي فينا أشياء جديدة..
عندما أستعيد الشريط نهاية السنة، تعود لذاكرتي الحفلة التي أنهت سنتي السادسة في المدرسة، اعتليت الخشبة لألقي بعض الكلمات، غالبيتها كانت مستنسخة، افتريت على أسماع الجميع كلمات لا تمت إلى بصلة، في النهاية وقف الصغار والكبار تصفيقا، كان في نظري طرق اليدين زائفا، أنا لست الكاتب، كانت هذه كلماتي في نفسي، أعتذر إليها أولا ثم للأسماع التي خدعت، الطفل الذي أمامكم لم يكن محمود درويش ولا شيئا من هذا القبيل، إنه كذب في كذب..
انصرفت مطأطأ الرأس، رحلت متخفيا عن الأنظار، الهروب أسوأ شيء، أن تفتخر بأسلوب سيء تملكه، خير من كلمات تثير بها إعجاب الآخرين وأنت لا تملك سطرا منها، كان الوقع أليما علي، لقد بالغت قليلا، ولكن هذه هي الحقيقة، الحقيقة التي حولتني ثلاثمائة وستين درجة..
في اليوم الموالي أطلت العطلة، العادة القديمة؛ الهروب والانسلال تغيرت، الكتب في المتناول، من السطو إلى التملك، الوريقات نفسها تملأ بيتي، مع تغييرات قليلة، الوالدان يشتريان الكتب، وربما هذه المرة عرفت من على أن أكون، إنها هبة الرب، تطلعت لمدى تحسن أسلوبي إلى حد الجنون، قلم وورقة، قلم وورقة، الأب يصاب بالذهول، الكتابات غريبة نوعا ما، حسنا! سنصلح الكثير من الأخطاء، هذه الأخيرة ليست عيبا، العيب الأكبر أن تتوقف مكانك، المحاولات هي الفيصل لتصبح كاتبا أفضل..
الكتابة لونت حياتي، أستمد قوتي من كلماتي لحاجتي إليها، آلامي.. سعادتي.. حزني.. وابتسامتي، لا أحتاج شفقة أحد، التعبير هو المهرب الوحيد، التنفيس عن الغضب، التسمر لوصف فرحة، كلماتي هي السبيل الأخير الذي يواجه كل شيء..
لقد اعتدت على ذلك، في وقت ما، لن تجد الكلمات اللازمة، تصبح عاريا عن التعبير، تعجز عن إيجاد الوصف المناسب، تصاب بالسقم، الكتابة أشبه باللعنة، إذا أصابتك فإنها تسكن في ثناياك، تلازمك كل حين، بلا كتابة أنت معدم، لا وجود لك، أنت لا شيء، الوصف الأدق للحالة، أنت تكتب إذا أنت موجود..
ذلك القصور الذي اصابني لحظة في تلوين نص ما بتعبير دقيق أرداني كئيبا، الكلمات لا تنساب زلالا، القلم يأبى التحريك ساكنا، والعقل يتوقف دون نية في التحرك، المادة الرمادية أصيبت بإرهاق شديد، تحملت طاقة قصوى، انحدارها الشديد جعلني مستلقيا على السرير لمدة تجاوزت اليومين، الحقيقة التي أدركتها، أن الإنسان يظل جاهلا مهما بلغ علمه، ابتعدت قليلا، اقتنعت أن الكتابة والقراءة سكة لا تنفصل أطرافها، في حالة الطلاق سينقلب القطار..
الظرف الذي مررت منه وسع نظرتي إلى الأدب، المناهج التي لم أكترث إليها يوما، أصبحت مجبرا على البحث في تفاصيلها، العالم الذي اخترته لنفسي، المبادئ التي بنيت عليها ذاتي، لا يجب تكبيلها، الإبداع لم يكن وليد كتاب أو كتابين أو حتى ألف كتاب، لم يرتبط يوما بكاتب أو كاتبين، إنه يتجاوز ذلك، الاعتراف بحقيقة النقص هو كمال في حد ذاته، في الوقت الذي تدرك فيه ذلك ستعود كما كنت، ذلك ما أيقنته، وأن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا..
حسنا! انت في طبقة كادحة، الدريهمات قليلة، لا تكاد عائلتك توفر قوت يوم حتى تبدأ التفكير في الغد، الكتب مهما كثرت لن تصل إلى المطلوب، كان الحل ان أهرب إلى المكتبة القديمة، في المكان الذي تملأ فيه الأشباح الكراسي، والغبار يعم المكان، لا شيء يشفي لهفتي إلى القراءة غير هدوء المكان، الهروب من أصوات الحافلات، وصراخ العامة أصبح ضرورة ملحة..
كانت المكتبة المجاورة هي الحل، حيث تلتئم جروحي، وأشبع مجاعة روحي، هنا الكتب القديمة، التي هجرت، الكلمة الجميلة اضمحلت في أعين الناس، لتعيش الرفوف الوحدة، حتى إن أحد الكتب التي أردت قراءتها التصقت بالخشب، وكأنها تأبى الانصياع لرغبتي، لقد كبلت وأصبحت مهمشة، ربما بنفخي عليها أعدت لها الروح، وكأن الوريقات استعادت نسمة الحياة، والكلمات تراقصت لتعيد الزمن الجميل، إنني أتحدث إليها كل يوم كالمجنون، أحاول تهدئتها، لقد أصبح الأمر تقليدا حتى بلغت سن الحادية والعشرين..
قليل من الألم، الكثير من الظروف، الشد والجذب، المعاناة البائسة، صوت الجارة المرتفع عليّ، الناس المتصنعة، السيدة ليلى التي تبلغ ستين سنة من عمرها، وكأن الخطوط العمودية والأفقية على وجهها تحكي معاناتها، هذه الأشياء البسيطة هي التي تصنعنا، إن الربّ يهب للإنسان عبر الوجود رسائل تصنعه، ظروفا تغيره، لولا هؤلاء ما كنا لنكون نحن، في نهاية قصتي التي انتهت مؤقتا، لم أجد يوما المكان الذي أنتمي إليه، أحببت دوما أن أقرأ على مسمع من الناس، صديقتي هدى منحتني هذا الإحساس أخيرا، إنها تشبهني كثيرا، لذلك نحن هنا، في المكان المناسب والتوقيت المناسب..

زيد شقيري