سيرةُ “عبد الإله مهداد” النّاقصة. مواءمة بين الصّورة البصريّة للنّص ودلالاتِه!

مهنّد ذويب، الرّباط، خاص بـ”مجلّة أفانين”

رغم أنّ العنوانَ يحيلُنا مُباشرة إلى ديوان سركون بولوص: سيرة ناقصة\ قصائد أولى، إلّا أنّ هذه الصُّدفة، بما تتركه من قلقٍ وشكٍّ لحظيّ في نَفْس المتلقّي، تعزّزه وجوه لوحة الغلافِ المرسومة بأسود خفيفٍ على تموّجِ لونيِ التّفاحة والسِّماء، تمثّل عتبةَ قلقٍ حقيقيّة نعبُر منها إلى “البِناء القَلِق” لنصّ عبد الإله الشّعريّ، النّابِع من عمقِ أسئلة الإنسان المفتوحَة على الاإجابة، وآلامِه المتلاطمة، ورحلة “إعادة التّفكيك” للمفكّك أصلًا في المُسلّمات، ومواضَعات الوجود وقواعِده، بكلّ ما يحمِله المُختَلف\ المُبدع من حساسيّة تِجاه فكرة وراثة الأشياء. وهذه الرّحلة بالضّرورة ليست جديدة أو مُبتكرة، ولا تحتاجُ بناءً بعد التَفكيك، وليسَ لها قالبٌ جاهزٌ في الأغلب. لذا، لا أجدُ من الضّرورة بمكان أن أقوم بتتبّعُ هذا القلق على مستوى اللّغة والتّراكيب والمفردات فقط. القلقُ انزعاجٌ، وحَركة، وتدفّق، وما يميّز هذه التّجربة حركيّتها، فعبد الإله استطاعَ، مُنطلقًا من فكرة التّجريب وتداخل الأجناس الأدبيّة، أن يجعلَ من قصيدته لوحةً فنيّة تشكّل عتبة مباشرة للولوج إلى النّص الشّعريّ أحيانًا، وأحيانًا كان النّص الشعريّ عتبة للصّورة.

لا أستطيع في الحقيقة تسمية “هذا” تجديدًا على مستوى الشّكل؛ لأنّ القصيدة الحديثة هي انقلابٌ على الشّكل التقليديّ أصلًا، ولا أعرف إنْ كنتُ أستطيع تسميته تجديدًا على مستوى الرّسم، لما تحمله الكلمة من دلالات في علم الخطّ، لكنّه مواءمة عميقة بين “صورة” النّص الشّعريّ ومعانيه ودلالاتِه ومفرداتِه، بطريقة حداثيّة واعية تفهم الممارسة النّصية في الورقة.

 في القصيدة الأولى، التي تحمِل عنوان العمل نفسَه، قام الشّاعر بتقسيم الصّفحة طولًا إلى قسمين، يكتبُ أحيانًا في الجهة اليُمنى، ويكمل في اليُسرى، أو العكس، أو يترك جهة فارغة، أو يصحّح في اليسرى ما كتب في اليمنى، أو العكس، وأحيانًا ينقل آخر حرفٍ من آخر كلمة في السّطر الشّعريّ إلى الجهة الأخرى، لتشكّل بدورها كلمةً تكملُ سياق النّص. القسمانِ متقابلان، كأنّهما مستويانِ من الإدراك، أو الوعي واللاوعي، أو المتن والهامش، أو المنطوق والمسكوت عنه، أو المسودّة والنّتيجة، وكلّ صفحة تشكّل جزءًا من صورة كليّة تخدِم فكرة النّص، وترتبط بنُقصانِ هذه السّيرة، وبتلعثم “الرّحلة” التي كتبها ورسمها، منذُ “الخطأ الذي.. يتذكره أو لا يتذكّره سنة 1996″، إلى الوقت الذي صار يجوبُ فيه “كنائس ذاتِه، يبحث عن شيءٍ ما، ويقرع ناقوس التّيه”، وينادي:

” يا الله، أيّ من هذي الأبواب ستفتحها؟

مشنقة العُمْر على العَتَبات

يا الله، هل لك أن تضرِبني بالغصنِ المتدلّي مِنك؟”

إلى تماهي الصّورة الجميل جدًا مع النّص، حين يقول:

“اليوم ستكسر كلّ مراياك، فالزّجاج المحيطُ بك الآن”

 

 ثمّ يرغمكَ على البحث عن مرآة؛ كي تستطيع قراءة ما كتبه بالمقلوب في العمود الأيسر، حيثُ استخدم التّضاد في المفردات.

 

يكمل عبد الإله، رحلته أو سفره، عبر اشتغاله على بياضات الورقة، والمساحات بدقّة مهندس جعل نصّه يتّخذ مساراتٍ أخرى أشدّ تأويلًا وأقلّ مواربة، وهو اشتغالٌ لم يفقد النّص عفويّته وانسيابيّته، فمن خلال النصوص التي تنوّعت بين الشّعر الحرّ وقصيدة النّثر، وترابطت عميقًا فيما بينها أسلوبًا وفكرة، وعكست مخاوِف الإنسان، وآماله، وتطلّعاتِه، بلغة “شاكّة” متوجّسة، وبلا أيّ جزمٍ أو إثباتٍ أو تقرير، وبنهايات مفتوحة ومُشرعة للتأويل والتّقمص والإسقاط، استطاع مهداد أن يرسي التّداخلاتِ كلّها في بناءٍ متكامل الأركان، وأن يقدّم نجمته الشّعريّة ببريقٍ أخّاذ رغم ما خُيّل له من أنّخ” كلّما لمح نجمة شعر وجد بداخِلها شاعرًا يجلس القرفصاء”، كما كانَ للأماكن حضورها القويّ عند مهداد، فهو الصّاعد من وِجدة المدينة المفتوحة على الشّرق والقِدم والحضارة إلى الرّباط العاصِمة، حيثُ الاختلافاتُ الكثيرة والمقارنات والمساحات البيضاء أوالممتلئة في نصّ الحياة بين المدينتين. وهو ما عزّز ربّما حالة اغترابٍ من نوعٍ ما، اغترابٌ عن الذات والجسد تارةً، وعن التّفاصيل والعادات تارة أخرى، وهو ما أبدع مهداد في وصفه بالصّورة والنّص مضيفًا إليه غبشَ المستقبل، وأمنيات الفتى الغريب، من خلال استخدام مفردات “الثّقب، يلتفّ عليّ، دائِرة الكأس، دورة موتي، مِلء فراغي”، ومن خلال تسلسل النّص الشّعري حتى يلتفّ على نفسِه، ويكوّن لوحة ختاميّة لطيفة ما قبلَ استدراكات نصّ “البرزخ”.