اختبارُ نظر

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، شيماء قويون

المرآة التي أقفُ أمامها لا تجيدُ الكذب؛ إنّها تضعني أمام الحقيقة الكاملة الخالية من كلّ مواد التزييف. أنظر إلى وجهي فيها بتمعن، إلى جسدي، عينيّ… كلّ الذي في الخارج لا يعكس بتاتًا ما يحدث في الداخل. هذا الرّداءُ الذي أرفعه كراية منهزمٍ في حرب لم أختر خوضها، صار يُنهك كتفَيْ. والتّعويذة التي حفظتها عن ظهر قلب فقدت مفعولها، ولم أعد أدري بأيّ شيء سأواجه العالم الوحش.

لم أفقد بوصلتي، رميتُها بمحض إرادتي من أعلى الجبل. وقفتُ هناك أنتظر أجوبة تهبطُ عليّ بوحيٍ ما لكنّي لم أنزل إلّا بعلامات استفهام جديدة أثقلت زادي، ما جعل الهبوط أكثر صعوبةً من الصّعود نفسِه، في غياب تامٍّ للمنطق.

«فكّري خارج الصندوق» يقول صديق. ليست هذه هي المشكلة، لقد اكتشفت أنّ ما ظننته صندوقًا يسجنني، وعليّ التخلص منه بالتّفكير خارجه، ليس إلّا بيتًا من ورق. تهاوى مع أول قطرة غيث نزلت من سماء رحيمة عطفت عليّ ذات ليلة. أو ربّما كنتُ أنا الصّندوق، أسجن نفسي بأفكار لا تنبت إلّا داخلي، أسقيها من عرق جَلْدِ الذّات، وأعتني بها في كلّ عُزلة سواءً أكانت اختياريّةً أم إجباريّة. أختلي فيها بهذه «النّفس الأمّارة» بالعُزلة وأرجوها أن تُقلع عن عادتها السيّئة في انتظار الغائبين، أن ترخي يديها عن التمسّك بالأشياء من وقت لآخر، وأن تتوقّف عن رصد الأمل الذي لا يزيدها إلّا وحشةً و غُلبًا و يجعلها مثيرة للشّفقة، وأحيانًا مثيرة للخجل.

أحاول مرارًا صرف نظري عن الأشياء التي تأخّرت في الوصول، أقول: «انظُري للجزء المُمتلئ، ركّزي فيه». أحملُ الكأس المُمتلئ نصفها، وأفرغُ محتواها في كأس أصغر، تمتلئ هذه الأخيرة حتى آخِرها، فأفكّر أنه كان عليّ منذ البداية تغيير الكأس عوض البُكاء على ما اندلق منها. أُسقط التجربة على نظرتي للأشياء من حولي، أجرّب تغيير زاوية الرؤية، وأفكر أنّ كلّ الأمور حتمية لكن الفرق يكمن في طريقة رؤيتنا لها. أغيّر زجاج نظّاراتي، ربما كان العيب فيهما، أذهب للكشف عن صحة نظري فيقولون لي: «لديك مُشكلة في مجال الرؤية البعيدة». فأخبرهم: صحيح! لديّ مشكلة قديمة في رؤية ما هو أبعد من الآن. أمدّ بصري فلا أرى غير الضباب. أفشلُ في وضع خُطّة للسّنوات القادمة من عمري، وأقول: فلنعش الآن أولًا وليأتي ما يأتي. تخرج من صدري تنهيدة عميقة؛ ما أسهل الكلام، ما أصعب الالتزام به، ما أثقل الانتظار ما أعسر الإقلاع عنه.

لم يُجهّزك أحدٌ أبدًا لحقيقةٍ مثلِ هذه، غالبًا ستعيش وتموت دون أن تحصل على كلّ ما تريد، حتى لو أردتَه بشدّة، حتى لو آمنت أنك تستحقه. لم يُعلمك أحدٌ كيف لا تُبالغ في التّعلق بالأمور، لم تعرف قطّ الحدّ الفاصل بين الانتظار وبين الإفراط فيه. لهذا؛ يضيع عمرك على أرصفة التّرقب، عند مواعيد الأمل غارقًا في إحصاء العابرين.