الأدب و«الكآبة»

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، مهنّد ذويب

منذُ أنْ ظهرت وتمأسست الأشكال الإبداعيّة المتنوّعة، ومنها الأدب، والسّؤالُ نفسه يشغل بالَ الجالسينَ على كرسيِّ التنظيرِ النقديّ والتّلقيّ على حدٍ سواء، حولَ «فيضان» الأدب بالمشاعر الحزينة والكئيبة والمأساويّة. بل إنّ ثمة أطروحات حاولت النّظر (والتنظير) في العلاقة بين الأدب والحزن (في السّياق الشّعري العربيّ مثلًا)، بوصفِ الحزنِ نسقًا ثقافيًا له سلطته المرافقة لسلطة اللّغة المحايثة في ذاتها، وإنّ أيّ استجابة للعلاقات أو الأنساق السّلطويّة ستكونُ استجابةَ إيجابيّة بإعادة إحياء النّسق وتوالده، أو استجابةً مُقاومة للنّسق. ولهذا؛ ظهرت مثلًا «مدارس» شعريّة مثل المهجر والرابطة القلميّة، التي حاولت مواجهة أنساق الحُزن بالتفاؤل والإيجابيّة، وتجديد موضوعات الشّعر آنذاك، والالتفات إلى الإنسان والطبيعة.

أحيانًا، يمكن للمتابع (القارئ) القول إنّ الأدبَ هو حالة «نواحٍ» صاخبة بالكلمات، ويمكن لآخرين القول مثلًا: لو أنّ أهلَ ليلى العامريّة قبِلوا تزويجها لقيس لما أصبحَ شاعرًا، و«قَتَلنا» وهو كلّما صلّى يمَّمَ وجهَهُ نحوها وإنْ كانَت القبلة وراءه (أَراني إِذا صَلَّيتُ يَمَّمتُ نَحوَها بِوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيا)، بل إنّ عددًا من الشّعراء «عرّفوا» أنفسهم أو تجربتهم الإبداعيّة بموقعها من الحزن، قالَ صلاح عبد الصّبور مرّة: «لست شاعراً حزيناً، لكنّني شاعر متألّم»، أمّا في السّياق الغربيّ فأنهى بول فاليري (شاعرًا ومفكّرًا) الجدلَ القائمَ بالقول: إنّ كتابات المتفائلين رديئة. لكنْ لماذا كلُّ هذا؟

حاولَ عددٌ كبيرٌ من المفكّرين تقديم إجاباتٍ حول هذا السّؤال، ترتبطُ بالصّدق الفنيّ حينًا، وترتبط بوظيفة الأدب، وترتبطُ أيضًا بدورِ الفنّ كمقاوِم لسلطة الموت ودور الفنّان كفيلسوف (عند دولوز مثلًا)، وآخرونَ حاولوا النّظر إلى ارتباط الإبداع بالتجربة، وارتباط الإبداع الأدبي بتجربة الغربة (عند إدوارد سعيد مثلًا)، أو الاغتراب (بمفهوم التوحيديّ)، وارتباطه بالمجتمع والمشاكل والهموم السّياسيّة والمجتمعيّة، وغيرها من الأسباب والتفسيرات الصحيحةً في مجملها، حيثُ تشكّل كلّها فلسفة الأدب.

لكنّني أريدُ أنْ أقول أيضًا إنّ الأدب عمومًا يرتبطُ بـ«ما يستحقُّ أنْ يُروى»، وأنّه في جوهره يحملُ همّين أساسيين؛ همٌ تفريغيّ، فهو مساحة تفريغٍ لمختلف أشكال الضّغوط التي يعاني منها الإنسان، وهي مساحة آمنة مُرمَّزة، وهمٌ توثيقيّ؛ ففي جوهرِ الكتابة هاجسُ التوثيق والتأريخ للحظة والصّورة والحدث والشّعور والخوف. وبالتّالي؛ فإنّ الحزن أو الكآبة ليسَ هاجسًا بذاته، بل إنّه الشّعور الأكثر مرافقةً للإنسان الذي لم تسعفه الحضارة في نبذِ توحّشه، والذي يمتلئ بالشّكوك والأسئلة، والذي تحاصره الحروب والقتل وسوء التّوزيع والظلم الاجتماعيّ، والذي تحرّكه آلاف المخاوف. ولأنّ النّصوص الأدبيّة هي نصوص دنيويّة (بتعبير إدوارد سعيد)، وهي جزء من الحياة الاجتماعيّة؛ فإنّها تحملُ ما يحملُهُ الإنسان. هل هذا يعني أنّ إنسانًا يعيشُ في مجتمعٍ سعيد سينتجُ نصًا سعيدًا؟ ربّما، إنْ كانَ لديه ما يستحقُّ أنْ يروى حولَ سعادته تلك. هل أقدِّمُ الآن تبريراتٍ على أنّ آدابنا آدابُ نواحٍ وكآبة، لا أقصدُ هذا تمامًا، ولا أقصدُ حرفيًا أنّ الأدب مرآة المجتمع، بل أقصدُ القول إنّ تجاربنا الفرديّة في مُجملها (أو حياتنا) هي سلسلةٌ من محاولات محاربةِ تحدّيات الحياة، التي تختلفُ من مكانٍ لآخر، وإنّ الحياة وتحدّياتها هي المنتصرُ غالبًا؛ لذا فإنّنا نكتبُ حُزننا المهزومَ تارةً، أو فخرنا أنّنا حاولنا، أو ربما نكتبُ أنّنا أخيرًا نجحنا في اجتيازِ المرحلة لو استطعنا النّجاة.

قد لا أتذكّرُ أنّني قرأتُ عملًا أدبيًا يحتفي بالفرح، (بل أتذكّر أنّني قرأتُ عملًا شعريًا بعنوان: سرُّ الشفاء من الفرح)، ولا أتذكّرُ أنّني كتبتُ يومًا أحتفي بالفرح، والأغربُ أنّ قصائدِ الحبُّ في غالبها قصائِدُ فراق، أو قصائدُ خوفٍ من الفراق. هذا هو الإنسان… لذا؛ فهذا هو الأدب.