علكتي فراولة ونعناع وصراخ قطة

في الرّباط، يربطُ الإنسان ذاته بأشياء عدّة، يرتبط مع الإنسان ومع اللاإنسان، بحيثُ يصبحُ للمعنى معنى آخر، ويصبح لهذا المعنى الآخر معانٍ أخرى.

هل هذا الذي يحدث معي كل ليلة في العاشرة ليلًا؟، عندما يقومُ الترام بآخر رحلة له، رحلة يرحل فيها الزائرون، السّائحون، ولا يبقى أحد. هناك أراهما معًا، آخرُ زائرين، آخرُ حبيبين، آخرُ بَشِرِيّين، أُحَمْلِقُ فيهما، فيهما فقط.

عيونٌ دامِعة في السّماء الدّاكنة، كُلّ شيء صامت حتّى الصمت، لا أحَدَ هنا، هناك وهنالك، لا أحد، مُجرّدُ أشباحٍ بشريّة كانت هنا تطفو طيلة اليوم ولمْ يَبْقَ أَحَد.

يمرحُ الحبيبان على كرسيٍّ ما، ألاحظهما وتلاحظهما معي الأشباح بعيونٍ نائمة، فقط آلَتِي هي المستيقظة؛ آلة مسحٍ ضوئيّ للتذاكر. في هذه اللّحظات فقط، يشعران بلذّة الوجود، واستشعار حبٍ ما في مدينة الرباط، ينظران لبعضهما البعض أو بالأحرى يصنعان موسيقى رومانسية بِقَرْنِّيَتيْ عيونهما، ينتعشان بالنظرات، يصنعان لحنًا عِشقيًا، يغوصان في بحيرة الخطايا، حتّى الترام نفسُه يبطئ تحركاته؛ لأنّه وقَعَ في حبهما، وأراد أن يُبقيهما داخِله لوقتٍ أطول.

ألاحظُهما بمُقلتيَّ اللتان ترى الرُّكاب طيلة اليوم، من عجائز وصغار، وكلّ بني آدم، يبدوان مسالمين هناك، وحيدين، لكن مع بعضهما البعض، غريبين، لكن مُعَرَّفين لبعضهما البعض، متوحدين في هيام ما، عشق ما، تلامس حسيّ ما، هناك. لم أكن أعرف أنّ مشاهدتهما معًا، سيجعلني أستشعر مدى حجم المأساةِ داخلي.

وقف التّرام…

وَقَفا…

وقفتُ أنا…

لا زلت أراقِبُهما، باعتباري المُراقِب، أشاهدُهما كلّ ليلةٍ، الشابُّ مع الشابة، الشاب الذي يخيط الشعر تحت أنفه لحنًا على شكل شارب متساوٍ، والشابة التي تحيك تقاسيم وجهها تشكُّلًا للحب، تنظر إليه كلّ ثانية، ولا تشيح النظرَ أبدًا، هو يركّز على تجسيدها للجمال فقط من حينٍ لآخر، يبدو مُتّسمًا بالشهامة، يتكبّر، ويوغل في تكبره.

منذ أربعة أشهر، وأنا أتوه في عالمِهما، كلّ مرة يصلان فيها إلى نهايةِ خط الترام قربَ محطة القامرة، يجعلانني أكتب عنهما أشياءَ غريبة، أو بالأحرى أخُطُّ ملاحظاتِ ما قبل الكتابة، أتخيّلهما في الفِراش، يأكلان الغداءَ في مطعمٍ شعبي، يلعبان الشطرنج بحيث يتركها تربحُ بشكلٍ خفيّ، أتخيّلهما وهما يتشاجران بسبب شخيره المتكرِّرِ أثناء النوم، وبسبب تركه دائمًا لكرسيِّ الحمام مفتوحًا، يتشاجران، لم أعرف كيف أَبدأ قصّتهما أو كيف أُنهيها، لأنني أكتب عنهما، أصبحا عالمي الخاص، عالمي الموازي.

وقف الترام حقًا هذه المرة، فالترام كدودة تأكلُ النّاس ثم ترميهم بعد دقائق معدودة كالوهم، وضع يده في يدها، وخرجا للظلام، استرسلت في المشي لألحق بالحبّ، أصبحتُ أحبُّهُما، عليّ أن أَنْقَضَّ على لحظاتِهما، لكي تُلهمانني في خياطة نسيج قصّتي، قد لا يأتيانِ مرّة أخرى للركوبِ مَعي، قد يشتري الشّاب سيارة، قد يأخذان طاكسي، قد يموتان، قد وقد… سأفتقدُهما، سأضعهما كشخصيتين رئيسيتين في قصّتي القصيرة، أفكار غريبة تأتي لعقلي الغريب وأنا وراءَهُما، يتّجهان صوبَ المحلبة التي بجانِبِ الترام، الشارعُ نائم، والناس الذين لا يزالونَ مستيقظين يبدون مظلِمين، قطط تغني أغانٍ بئيسة، أعرفُ أصواتَهنّ؛ لأنّ كل ما أفعله في منزلي الصّغير هو كتابة القصص ومشاهدة فيديوهات مُضحكة للقطط، الكتابة تجعلُني أحزَنُ في أدغال السعادة المفقودة، والقططُ تجعلُني أضحك تحت طائلة الكآبة الموجودة، وأنا أكتب، تقف قطّتي ليندا في زاوية الغرفة، وهي تنظر إليَّ لكي أُلقي ببعضِ الطعام في صَحْنِها الأصفَر، لا أريد لليندا أنْ تَصِلَ لمرحلةِ الغضب، تصبحُ طائشة، ثم تبدأ في تمزيق أوراقي التي تضمّ قصصي المكتوبةَ بقلم الرّصاص، أحبُّ أن أكتب وأمحو بسهولة، قلم الرصاص يضمَنُ هذا. تصرخُ ليندا عبر مواءٍ يتعدّى الصدى في جماليّته، تبدو جائعة، تبدو حزينة، وتحرّك رأسها الصغير باتجاه الصحنِ الأصفر، أنهضُ بتكاسلٍ خفيّ، أُفرغ علبةً من السردين في صحنها، تشكرني بمواء متعطّش للشكر، ثم تتعمق في لذّة سردينيّةٍ على الصحن الأصفر. منذُ أن بدأتُ ألاحظهما “هي” و”هو”، أصبحتُ شخصًا آخر، شخصًا مُراقبًا أكثر، رغم أنّ المراقبة هي عملي طيلة اليوم داخل الترام، فالمراقبة أضحَتْ جُزءًا منّي منذ بدأت العمل في شركة الترام منذُ سَبْعِ سَنَوات، لكنّ مُراقبة التذاكر ليست مُراقبةً حقيقية، أصبحت منذ أن رأيتهما منذ أربعة أشهر، أراقِبُ كلّ شيء فيهما، أتأمّلُ كلّ شيء حولهما، كلّ جزء جسدي أو حِسي، أراقبُ عيونهما الناعِسة في العاشرة ليلًا، أراقب ضِحكتَها، وابتسامَته الجادّة، وأصبحتُ أراقب نفسي، وأراقب ليندا، التي أصبحتُ مُؤخرًا أُشاورها في مشتريات المنزل، هل تحرّك رأسها لأنّها تعرفُ الجواب؟ أو لأنّها تَعِبَتْ من أسئلتي؟ عندما أخبرتُها بأنّني سأشتري عِلكتين، صَرَخَتْ، وابتَعَدَتْ عني، وجلستْ تَتَساءلُ بعينيها، ثم ابتسَمَتْ، هل عَرَفَتْ أنّني تعلقت بالشاب والشابة الى هذا الحَدّ؟ ليندا دائمًا ما كانت حكيمة، لكنّ سؤالها عن العلكتين وَضَّحَ ذلك، مَضغتُ في تلكَ الليلة، علكةَ فراولة وعلكةَ نعناع، وقمت بإعداد شاي بالنّعناع، واشتريت نصف كيلو من الفراولة بعشرة دراهم، لماذا هذه الفاكهة الرّومانسية دائمًا باهظة الثّمن، هل لأنّ الحب يمتلك سعرًا أيضًا، أم لأننا أصبحنا نشتري الحبَّ بأثمنة خياليّة، ربما سأسأل ليندا عن الأمر، ستملك الجواب بالتأكيد.

الآن،

لا زلتُ أتبَعُهُما…

وصلا للمحل، وصلتُ للمحل.

صرتُ الآن مُراقِبًا لصمتِهِما، صمتُهما الذي هو ضجيجٌ مركّب. الكل يعجُّ بالصمت كذلك داخل المحل، لا زبون يوجدُ هنا، طلبا صحنين من الحريرة، لكنّني جلست فقط هناك أتطاول على نفسي وأكتبهما داخل دماغي غيرِ المُتجانس، أخيط نوعًا من الحريّة لهُما، أحاولُ أن ألصِقَ لهُما نهايةً سعيدة، وفي نفس الآن، أتخيّلهما يفترقان، كلُّ واحد يذهب لحالِ سبيله، قد يجدان أشخاصًا آخرين، سأفتقد أنّها تأكلُ علكة فراولة بينما هو يمضغ طيلة الوقت علكة نعناع، ودائمُا ما يتركا غشاء العلكتين الفارغ على أرضيّة الترام، أجمعهما وأضعهما في كيسٍ بلاستيكيّ وأُخَزِّنُهُ داخل خزانتي المهترئة الموجودة في زاوية مظلمةٍ في غرفتي، سأفتح لهما المجال ليبقيا معًا، لأنّني أعرف أنّ لا أحد سيفعل ذلك، سأقدم لهما نهايةً تليق بهما، أحبُّ كيف يعانقان بعضهما البعض، يُلصقان قلبيهما النابضين بقوّة، أريد أن يلتصقا هكذا إلى الأبد، سأجعل الكلمات مثل صمغٍ قوي، يربطهما كقيودٍ حديدية.

سأبقى في المحل حتّى يُغادرا، ثم سأغادر بدوري أيضًا، سأشاهدُ فيديوهات لِقطط وهي تصرخ ثمّ سأتذكرهما، سآكل علكَتَيْ نعناعٍ وفراولة في آن واحدٍ مرّة أخرى، ثم لن أغسل أسناني، ثم سأحاول النوم، سأحاول فقط، لأنّني أعرف أنني لن أنام، سأنهض من سريري الشبيه بالباسطا الإيطاليّة عندما تبقى في الثلاجة لأيام، سأسير بخطوات متثاقلة نحو المطبخ، لديّ من المكونات ما يكفي لطهي الحريرة، من طماطم وطحين وحمّص وبعض قطع العظم المليئة بجزيئات من اللّحم، وقطعة خبز سيرافقني النمل في أكلها، وبعض البقدونس والعدس، وقطعة بطاطس واحدة بدأت البكتيريا تنخر جزأها الأيمن.

سأطهو، وأنا أتذكّرهما…

سأتذكر كيفَ تلكَ الشابّة ترفع الملعقة عاليًا وتُدخل الحريرة ساخنة في فمها، بينما هو ينفخ على “الزلافة” بقوّة، يُحبُّ الحريرة باردة قليلًا، لاحظتُ أنّهما متناقضين في العديد من الأشياء، هي تحبّ علكة الفراولة، هو يحبّ علكة النعناع، هي تعشقُ الحريرة مُلتهِبة، هو يُفَضِّلُ الحريرة دافئة. أخافُ أنّ أحدهما يحبُّ الآخر وأنّ أحدهما لا يحبُّ الآخر، فالحبُّ لا يكون طريًا، طازجًا، ورخوًا إلا إذا أتى من طرفين، عنصرين، ذاتٌ وذاتٌ أخرى، روحٌ وروحٌ ثانية، هو وهي، الفراولة والنعناع. في الترام، يغادر بعضُ الناس بثقة، وبعضٌهم الآخر يخرجون مطأطئي الرّأس، وثلّة منهم يرسمُ الحزن على ملامِحِهم لوحاتٍ زيتيةٍ تكعيبية، وجزءٌ منهم يبتسمون رغمَ الأسى. عندما تكون مراقبًا لسنوات طويلة، تصبح أستاذًا في تحليل أوجُه الناس، تلك الوجوه البئيسة حينًا، والمسرورة حينًا آخر، كانا هو وهي يبدوان لي طيلة الأشهر السابقة سعيدين. أحيانًا، يجلسان بعيدين عني، فأحاول تخمين الحوار الذي يجري بينهما، أنظر إلى شفاهِهِما وأحلّلُ الكلمات التي لا أسمعُها، وأبتسمُ حين يبتسمان، أضحكُ بهدوءٍ عندما تضحكُ هيَ ولا يزالُ هو يبتسم تلك الابتسامة الغامضة، وأصمِتُ في حضرتِهما حينَ يَصمِتان، فالصّمت معهما كلام بليغ، وأصبح أنا في هذا الهدوء الغريب، أُنصتُ لأفكارهما الداخليّة، وأُحلل من جديد كلّ فعل، كلّ قول، أو كل حركة قاما بها وهما معي في هذا الترام.

هي تحبّه، لكنّها تخشى عليه من الموت، من المَرض، من أن تَفْقِدَهُ الى الأبد.

هو يحبّها، ليس بمفهومٍ عام، ولكن بحبٍ مُتقطّع، ليس مسترسلًا.

هي تراه شخصًا وسيم، تغرق في جماليّة لحيته وذقنه، وتهيم باستمرار في رونق شعره الكستنائي.

هو يراها فتاةً عاديةً في أوقاتٍ كثيرة، وكأجمل فتاة في الكون في أوقات كثيرة أخرى، وفي أوقات قليلة أخرى كفتاة وحيدة لا تجتمعُ مع العشق إلا معه.

هي فتاة هادئة، رقيقة، خجولة، لكنّها تصبحُ فتاةً أخرى معه، تصبحُ حادّة الطباع في الحبّ، متقلّبة المزاج في الهيام، وشجاعة في النّظر إليه وقول ” أنا أحبك”.

هو فتىً جادٌ في تصرفاتِه، ولكن عندما يضحى معها يصبح شابًا أقلّ جدية، وغريبَ الأطوار قليلًا أيضًا، كعاشق سقط في نهر الهوى، ولم يعرف كيف يخرج، لأنّه لا يعرفُ العوم.

هي تَلِجُ للترام حاملةً رواية روسيّة حينًا، روايةً طفوليّة لرولد دول حينًا آخر، أو جريدة تقرأ فيها أخبار البارحة.

هو يُخرج هاتفه المحمول عندما يسودُ الصّمت بينهما، ويضع سماعاته الرماديّة، ويُنصت لجوني كاش، أو فيروز، أو مجموعة “العقارب”، أحيانًا أسمع صدى تلك الأغاني، فأرقص في مكاني.

هي تحبُّ اللون الأزرق، تعشقُهُ في الجينز الذي ترتديه مرارًا وتكرارًا، في حذائِها الأزرق المخطط بالأبيض، تعشقُهُ في حقيبتها الزرقاء التي أضحت بالية مؤخرًا، ولكنها لم تشترِ واحدة أخرى، تعشقه في الكرسيّ التي تجلس عليه، الكرسيّ الأزرق.

هو، إنسان مليء بالألوان، مُغرم بكلِّ لون، في كلِّ شيء، يبدو مخططًا طيلة الوقت، ولا يأبه لأيِّ شيء، لكنّني أعرف أنّ البُنيَّ هو لونُهُ المفضّل، لأنّه يُحملِقُ مُطولًا في عَينَيها، عينيها الشبيهتين بالقهوة البرازيليّة الصافيّة، فيمتلأ بالكافيين، ولا يستطيعُ النّوم، مثلي كلَّ ليلة، أنا بسببهما وبأسباب أخرى، وهو بسبب عينيها اللتان تبدوان دامعتين، ولكنّها ربما تبكي لأنّه معها، أولأنّها معه.

هي تهرولُ لتلحق به عند خروجها من الترام.

هو لا يثقل الخطوات لتلحقَ به هي.

هي تضحكُ أحيانًا،

هو لا يضحكُ بتاتًا، فقط يبتسم ابتساماتٍ خفيفة، ثم يغلق أسنانه كستارٍ مَسرحيٍّ أحمر، شفتاه حمراوتان طبيعيًا، بينما شفتاها حمراوتان بسبب ذلك الأحمر الشِّفاه الذي تُخرجه من حقيبتها الزرقاء مرّة واحدة في رحلة الترام.

هي…

هو…

هي…

هو…

أنا لمْ أقُلْ عبارة “أحبك” لفتاةٍ من قبل، ودَدْتُ لو قلتها أو ردَّدتها، تبدو عظيمة وهي تخرج من بين الشِّفاه، أسمعُها في الأفلام الرومانسيّة، في الأغاني الحزينة السعيدة، في منتصف الرّوايات، وفي مخيلتي وأنا أقولها لفتاةٍ خياليّة. هي، سَمِعتُها تقولها له مرتين، الأولى كانت قبل حوالي ثلاث أشهر، والثانية قبل خمسةِ أيام، لكنّه لم يقل شيئًا، لم يُجبها بأي كلمة، أو صوت، أو حتّى همس، فقد حرَّك رأسه من أعلى الى أسفل، وأكمل صمته، ودَدْتُ لو هرولتُ باتجاهه، وجذبتُ ذراعه، واقتربتُ من أذُنِهِ وهمست له “أرجوك، قل لَها تلك الكلمة، لماذا تتركها هكذا؟ حزينةً بجانِبك، تنتظر منك شغفًا لغويًا، كلمةٌ واحدةٌ قد تغيّر كلّ ملامِحَها، أرجوك!، أرجوك!، كن حرًا وقلها، ولا تَسْجِنُ نفسك داخل زنزانة الكبرياء والتّحامل والإجحاف، أرجوك!”، لكنني لم أقل شيئًا، فقد جلست هناك على كرسيِّي في مؤخرة الترام، أشاهدهما بحزنٍ شديد، أشاهدها هي بحزن شديد، وهي تنتظر منه جوابًا، لكن لا شيء، بَقِيَتْ صامتة هناك، فقط ضجيج السِّكة يكسِرُ صمت المكان، أَخْرَجَتْ أحمر شفاهها من جديد، واستخدمته مُطوّلًا، ثم انتزعت من حقيبتها علكة فراولة، وبدأت بالمضغ، اختلط أحمر الشّفاه مع اللّعاب الورديّ المُختلطِ بدوره بالعلكة، اللّونُ الأحمر يجعلها متواطِئة مع الأحمر في الغَضَب، والعشقِ، والدم. لا شيء أصعبُ من أن تغضَبَ امرأةٌ بسبب الحبّ، ولا شيء أجملَ من أن تفرحَ امرأةٌ بسببِ الحب، جعلها الحب في هذه اللّحظات تشعر بالمجهول، بالفضاءِ المنسيّ، بأحلام كابوسيّة، بِظِلٍّ داكن، وغدرٍ في اللّغة والحوار، وبلدغةٍ في كلمةٍ واحدة، وبتيهٍ في المكان، شَعَرتُ أنّها اختفَتْ من مكانها، وأصبحت فتاةً أخرى، شعرتُ أنّها تجمّدت وهي تختفي، وبَدَتْ لي أنّها ستتنكَّرُ في ثوبِ الهدوء حتّى تخرج من الترام، وتدخلَ لمنزلها أو لمنزله أو لمكانٍ آخر يكونان فيه لوحدهما، ثم ستنفَجِر، والانفجار بسبب الحبّ يُحدث آثارًا دمويّة، والدّم لا يكون أحمرَ مثلَ أحمَرِ شِفاهها، أو ورديًا مثل علكتها، سيكونُ مُتعدِّد الألوانِ مثله هو.

في منزلي الذي يبدو كمكانٍ دَخيل عنّي، غامضٍ في تجلياته، متطفل عن أمكنتي الروحيّة، أجلس قليلًا، ثم أخرجُ منه، أخرج إلى العدم وإلى اللاشيء.

خرجتُ ببطء بعد أنْ أكلتُ ثلاثَ زْلاَفاتٍ من الحريرة، ليندا لم يُعجبها مذاقُ الحساء رغم أنّ فيه بعضًا من قِطَعِ اللحم، فقط نَظَرَتْ باتجاه صحنِها الأصفر، وقهقهتْ بمواءٍ ساخر. في الخارج، الجميع نيام، أسترقُ السّمع لأنصتَ لبعض صرخاتِ قطط الشّارع، تلكَ التي تصرخُ من شدّة الألم، من شدّة الجوع، ومن شدّة العطش، ومن شدّة القهر، قططٌ تصرخ، والناس نيام، أتساءلُ كيف يستطيعونَ النوم، ليندا تجيبُني بصوتِها القِطِّي المليء بالسُّخرية اللاذِعة، عندما أسألها، تجيبني بعبارة “مياو مياو”، وأعرف يقينًا أنّها تقصدُ جوابًا مُسْتَهزئًا، تجيبني “لماذا لا تنامُ أنتَ إذن؟ نَم ولا تسألني هذه الأسئلة الغبيّة”، تسألني سؤالًا جوهريًا فلسفيًا، وتأمرني في نفس الآن بالصّمت، أجيبها أنّني لا أنام جيدًا طيلة الأربعة أشهر السابقة بسببِهِما، لأنّهما يأتيانني إلى عقلي المُركّب، يزورانِني في مخيّلتي الواقعيّة، وأحزنُ لأنّني أعرفُ أنّه إذا لم يقلْ لها “أنا أحبك” سيفترقان إلى الأبد، سيمسحان وجودهما معًا، وسيطمسان حضورهما معي كلّ ليلة في الترام، بسبب كلمة، سيحطمان جسرًا من الحبِّ الليلي.

وأنا أتمشى بخطوات متثاقلة، وجدت دكانًا واحدًا مفتوحًا، كان مليئًا بالأزرق، ذَكَّرني بها تلقائيًا، كان داخل الدّكان رجلٌ عجوز يُشبه الشاب كثيرًا في تقاسيم وجهه، كانت أيضًا ابتسامته لا تظهر إلا نادرًا، وكان أيضًا يمضغ علكة ما، ومن حين لآخر بدأ بعض اللّعاب الأخضر يخرجُ من فمه شبه الفارغ من الأسنان، كان مُحبَطًا، حزينًا، مهمومًا، ومتشعِّبًا بالوهم، كان ولهانًا، أخبرتُهُ أنني أريد علكتي فراولة ونعناع، نظر إليّ متفاجئًا، ثم أغمض عينيه بسرعة، مياه مالحةٌ خرجت تسبح من عينيه الضيقتين، ثم أشار بيده الى العِلَكِ المتواجدة في مقدّمة المحل، ثم أكمَلَ مُشاهدة التلفاز، حركتُ رأسي بسرعة وبفضول لألاحِظ ماذا يُشاهد، كانت مباراة كرة قدمٍ قديمةٍ مُعادة على قناة رياضيّة لا أعرفُها، لا أحبُّ مشاهدةَ الرياضة، تجعلني أقارنُ نفسي مع أشخاصٍ أكثر وسامة، عِوض ذلك أعشقُ مُلاحظة الناس العاديين في الترام، أولئك الذين يشبهونني، الذين يحقّقون لي توازنًا عاطفيًا، توازنًا شِبه تراجيديٍّ مع نفسي ومعهم هُمْ.

تعبتُ من المشي، قررتُ العودة للبيت. في الطريق، سِرتُ بضعَ خطوات على سكّة الترام، ووصلت لنهايته قربَ القامرة، هناك، وجدتُ أحمر شفاهِها ساقطًا، لم يبقَ منه الكثير، ربما سأستعمله لكتابة عنوانِ القصة التي سأكتبها عنهما، عنه وعنها، فكرتُ في ليندا وماذا تفعل الآن، تساءلتُ عن الرجل العجوز صاحبِ الدّكان الأزرق لماذا يشاهد مباراة كرة قدم قديمة، تساءلت لماذا أنا خارج المنزل في الثانية عشرة ليلًا، فكرتُ فيهما من جديد، هل سيبقيان معًا؟ أم سيفترقان؟ هل سأراهما غدًا؟ هل سيجلسان أمامي ويمضغان علكتهما بهدوء مزعج، أم سيجلسُ حبيبانِ آخرانِ مكانَهُما؟ تساءلتُ هل ليندا ستبدأ من الغَدِ في تذوّق الحريرة، أم أنها ستبقى ساخرةً للأبد وعاشقة للسّردين المعلّب فقط؟، هل سأستطيع كتابة بدايةِ قصّتهما؟ كيف كان موعدهما الأوّل؟ في أيِّ مطعمٍ كان؟ ماذا رَأَتْ فيه؟ وماذا حلَّلَ فيها؟ هل سأستطيعُ كتابة هذه القصّة القصيرة الخاصّة بهما؟ إنّها قصيرةٌ فقط لأنّهما ربما، فقط ربما لن يبقيا معًا طويلًا.

نظرتُ إلى جانب السكة الحديدية للترام، توجد قطة تشبه ليندا في الكثير من ملامحها، جالسة تصرخُ في سكون مُطمئن، اقتَرَبَت منّي، تبدو جائعة، فتحتُ علكة الفراولة وانْحَنَيْتُ باتجاهها، وقدمتُها لها، بَدَأَتْ في المضغ، ثم ابتسمت لي، ابتسامتُها مثل ليندا، ابتسامةٌ ساخِرة، ناقدة، هزليّة بدون أيّ ملامح كوميديّة، جلستُ على الرّصيف، وجَلَسَتْ هي بجانبي، بدأتُ بمضغ علكة النعناع خاصتي، بدأنا بالمضغ معًا، لم نتوقف، اختلط لعابنا بالعلكة، صارت أفواهنا كآلة مستمرّة في العمل دون توقّف يُذكر. فجأة، لم يبق طعم النعناع موجودًا في علكتي، اختفى منها، واختفى من فمي، أَصْبَحَتْ علكتي مثل مطاط بدونٍ أيِّ مذاق، بصقتُ العلكة بسرعةٍ حيثُ ارتطمتُ بالأرض، نَظَرَتْ إليّ القطة ثم ابتعدت عنّي بتكاسلٍ واضح، وجدتُ علكتها هي الأخرى على الرصيف بجانب علكتي، حملتهما معًا، مزجتهما معًا، خلطتهما معًا، جمعتُ الفراولة والنعناع في كيان مُوحّد، ثم وضعتُهما في جيبي، لا زلتُ أسمع صراخ القطة عاليًا في الظلام الدامس، كأنّها تقول لي : “لا زلت جائعة، العلكة لمْ تفي بالغرض، لم يكن لها أيّ تأثير عليَّ وعلى جوعي”، تصرخُ بصوتٍ عال “لا زلتُ جائعة!!”، ثم تهرب راكضة نحو المجهول”.

أنا أيضًا صرتُ جائعًا، تجلبُ العلكة الجوع لبطني، كما يجلب الحبُّ الألمَ لقلبي، ربما سأرجع للبيت وأبدأ بالكتابة، لكن أولًا سآكل صحنًا من حريرتي اللذيذة، وسأحاول أنْ أقدِّم القليل لليندا، لعلها ستقبل هذه المرة بتذوقها، ثم سأنام قليلًا، حيث غدًا سأنتظرهما في العاشرة ليلًا في الترام، وسيكون في يدي جهاز المسح الضوئيّ للتذاكر، وسأراقب الناس هناك، ثم إذا لم يظهرا، سأشتري علكتَيْ فراولة ونعناع من العجوز مرّة أخرى، ثم سأحاول مضغهما، ثم سأسأل صاحب الدكان الهَرِمِ عن سبب مشاهدته لمباراة كرة قدم قديمة، سيخبرني بجواب غريب، ربما سيجيب أنّه يتذكّر من خلالها حبًا كان متواجدًا معه تلك الفترة، ثم سيقدّم لي علكة فراولة كهديةٍ، ثم سيبتسمُ ابتسامَتَهُ الجادّة ويعود لمشاهدة مباراتِهِ من جديد، قَدْ لا أمضغ العلكتين، سأشتري علبَتي سردين، وسآكل مع ليندا ثم سأنام. في صباح الغد، سأُعِدُّ شايًا بالنعناع، وآكل فراولة واحدة معه، ثم سأذهب للعمل، وسأشتاق لليندا، ثم سأراقب تذاكر جميع الرّكاب على الترام، سأراقبُ كلّ شيء حولهم، وأراقبه “هو” وأراقبها “هي”، إذا ظَهَرَا، فقط إذا ظَهَرَا.

هي…

هو…

هي…

هو…

أنا…

ليندا…

فراولة ونعناع…

حُبٌّ!

 

خالد موقدمين