تفكيرٌ باللّيل والخديعة
خاص بـــ«مجلّة أفانين»، اختيار التّحرير
مهنّد ذويب
مسكونٌ دائمًا بالخوفِ من الانجرارِ إلى الخَديعة، وقَد أُصْبِحُ هيَ نفسَها أحيانًا؛ حينَ تفرِضها (ضرورة الضّوء)، أو حينَ نصبِحُ ما نخافُه. والخَديعَةُ مدخل عبد الفتّاح كيليطو لقراءة المقامة، المقامَةُ التي تبدأ بالقَمَر الذي يربِطُهُ بالخداع والكذب، باعتبارِه سارقًا للأنوار (كما وصفه ابنُ المعتزّ) ولا ينبعُ نورُهُ من داخِله، وتنتهي بالشّمس. “في ليلةٍ أديمُها ذو لونين، وقمَرُها كتعويذٍ مِن لُجَيْن”، تبدأ المقامة الخامِسة (الكوفيّة)، و”أديمُ الليلةِ جلدُها وهو مخلوطُ البياضِ بالسّواد.. لذا فهي ذاتُ لونين تفتقرُ للوضوحِ والصّراحة.. وتكتنفها الشّبهة”، يقول كيليطو. ويرى أنّ ذا اللونينِ لا يختلفُ عن ذي اللسانين، والحيّةُ هي ذاتُ اللّسانين، وهي “حيوانٌ قمَريّ” يقول، ويذكرُ أنّ لسانَ العرب أورد فيما أورده من معاني كلمة الهِلال: “الحيَّةُ إذا سُلِخَتْ”.
إنّ الخوفُ من الانجرارِ إلى الخديعة يعني الخوفَ أصلًا من غَبَشِ الرؤيا، وتلوُّن الأشياء والنّاس، والتّلوُّن يعني أنَّ ثمّة ألوانًا أخرى غير الأسود (الظلام). أفكّر: كانت المقامة تحدُثُ في اللّيل، و”خديعةُ” ألف ليلة وليلة كذلك، (إنْ صحت تسميتها بالخديعة الكاملة؛ لأنّ قَصدَ الخديعةِ الحياةُ.. حياةُ النّساء كلّهنَّ أيضًا)، والخديعة الكُبرى “وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ”، والقول الشّهير: “هذا أمرٌ دُبِّرَ بليل” أو قُضي، وخديعةُ الخرافةِ في اللّيل، والجدّاتُ أيضًا في قولهنَّ: “كلامْ الليل مخلوط بزبدة” أو “كلامُ اللّيل يمحوهُ النّهار”، وربّما قصدُهنَّ بالكلامِ: الفعلُ؛ قلتُ سابقًا إنّ وجودَ الإنسانَ وما ينتج عنه من أفعال هو وجودٌ مكتوب وتعاد كتابته باستمرار، فربّما يصِحُّ، في هذا الموضِعِ، توسيعُ معنى الكلامِ في بلاغتهنَّ البسيطة ليشملَ الفعل،.. ربّما.
يقول كيليطو: “من الصّعب تصوُّر ارتباط الصّدق والحقيقة بالقَمَر، وارتباط الخداع والكذب بالشّمس”. بكل الأحوال…، يبدو أنَّ الخديعةَ قديمًا، بالاتّفاق، ارتبطت باللّيل والقمر.. القَمرُ الذي “كتعويذٍ مِن لُجَيْن”؛ أيْ مثلَ تميمةٍ أو تعويذة تُعلَّقُ اتّقاءَ السّحر والشّرِّ. و(لكنْ) يبدو أنَّ هذه التّعويذة ستحمي فيما بعد، اللّيلَ كلّهُ، من الخديعة، (ربّما مثلَ وشمِ قابيل/ قايين الذي كانَ تميمةً تمنعُ عنه الموت كما قالَ الخطيبي)، وتعمَل على تحويلٍ أو تحوُّل من نوعٍ ما!؛ الملْفتُ أنّني أصبحتُ أرى النّهارَ موطِنَ الخديعة وليسَ اللّيل، كأنّ ثمّة انتقالًا للكناياتِ، فأرى الإنسانَ في اللّيل أكثر بساطةً وأقرَبَ إلى حقيقته، حتّى في ملامِحِه، وأراهُ أقلَّ خديعةً في كلِّ ما يقومُ به أو يقولُهُ أو يفكّر به، فهو إذْ يستريحُ إلى نفسِهِ ويسكُنُ إليها يتحرّر من كلِّ ما يفرضُهُ (الضّوء) من خديعةٍ، والضّوءُ محلُّ الاستعراض والفُرجة والادّعاء والمُجاملة والتّملُّق و… التّجاسُر والاستمرار والمحاولة، ومن جهةٍ أخرى فإنّ الإنسانَ حديثًا أصبحَ أكثَرَ جرأةً على الخديعة، وأقلَّ خجلًا ليحاول إخفاءها؛ فلم يعُد يحتاجُ الليلَ ليدبِّرها، يقول المغاربةُ (بالدّارجة): “وِجْهُو قاصِحْ”.. أفكِّر مليًا، وأرى أنّ الأيام تثبت هذا، وأرى أنّني أنا أثبتُ هذا، وأرى خوفي يأتي من خديعة النّهار، وخديعتي تأتي من الخوفِ من النّهار.. أنا أفكّر فقط، وحتّى حجَجِي ربّما قليلة.. وغير مقنعة تمامًا (…).
فعليًا، أنا لا أحاوِلُ إنقاذَ الليلِ، (والقَمَر)، مِما التصقَ بهما (دونَ ذنب)، وإنّما أفكّر في ضياعِ معنى الشّمس، الشّمسُ كرمز وعلامة، كمُضادٍّ للشُّبهَة والحِجاب عندَ الجرجاني، ولولا أنَّ اللّيل موطِنُ الصّدق والحقيقة.. ما كنتُ كتبتُ هذا.
Afanine
مجلة أفانين: هي منصّة إلكترونيّة حرّة، وشاملة، ومتنوّعة، تديرها جمعيّة كتّاب الزيتون والمعهد اللغوي الأمريكي بالدار البيضاء، وتضع على عاتِقها أن تفتحَ نافذةً، للكتّاب والفنّانين في المغرب، نحو آفاق الإبداع. تنشر المجلة أعمالًا أدبية وفنية للكتاب والفنانين الشّباب بالمغرب، بالإضافة إلى مقابلات، وبروفيلات، وفرص، وصور فوتغرافية، وغير ذلك. تروم المجلة تسليط الضّوء على إبداعات الكتاب والفنانين الصّاعدين بالمغرب.