خاص بـــ«مجلّة أفانين»، شيماء مرغان *
في محدوديّة ذلك الفضاء وسرمديّة امتداده، كنتُ بينهم غيمةً طافية، نسمةً عليلةً تتحرك في أرجاء البيتِ صعودًا ونزولًا كما لمْ أكن مِنْ قَبل، أخف من الهواء وأسرع من خيوط الضوء، أتأمل الوجوه الملطخة مخاطًا، والعيون الفائضة بالدموع، واتتبع النحيبَ الخارج من الأفواه إلى أن يرتطم بالسقف، لفّني الصراخ والعويل كتلابيب مقدسة، أصابتني اليوفوريا من فرط نشوة السماع، ذلك البكاء يغسل الذنوب ويسدل الستار على المكشوف، غريب كيف أنّ الموت يُحي كل العواطف الإنسانية المطمورة، غريب كيف يوحِّدُ “الكلمة/البكاء/الدعاء”، فها هي عائشة التي كانت تمنَعُ بناتِها من مصاحبة الجثة إثر حياتها وتدعوها بنت المجنونة؛ تبكيها الآنَ بحرقةٍ شديدة، وتذكرُ مناقبها أمام الملأ، انزعجتُ من صدوح صوت النفاق فطِرتُ إلى الطابق الثالث، اخترقت الباب الموصد، ياله من مشهد، لوحة بانوراميّة، إذْ استحالت أجزاء من جلبابه ناصع البياض إلى حمرة كرزيّة، إنّها المرة الأولى التي ألمح دموعًا على سحنته، يعانق الجثمان تارة، ويمسك شريانها المقطوع في محاولة لبعث الروح فيها تارة أخرى، وكأنّه يقول: استيقظي وسأزوِّجُكِ بمن تشائين، تجاهلتهما وقصدت شرفتي، وأخدت أسترجع ذكرى انعتاقي من رحم العبوديّة .
التاسع من فبراير:
كَكُل ليلة من الليالي الثمانية الماضية، سحبت السكين من تحت الوسادة أنتظر خلوده للنوم؛ لأباشر سفكَ دمه، وككل ليلة عجزتُ عن الخروج من الغرفة، فقصدتُ الشّرفة في هذا المكان الذي أقف فيه تمامًا، رَأيتُ عزرائيل أول مرة قبل عشر سنوات، رأيتُهُ يخلعُ روح أمي من بين أضلاعِها دونَ رحمة. بدأ ذلك حين سمعتُ أبي الثمل يصرخ: تطلبينَ الطلاق ستطلقك حياتُكِ أيّتها العاهرة. تتبعتُ صوتَ الصّراخ، ورأيتُهُ يحاول خنقها، يضربها بوحشيّة مفرطة، في ذلك السن لم أستطع استيعاب ما يقع، تسمَّرتُ في مكاني مصدومةً وكأنّني أشاهِدُ فلمًا لا تعنيني أحداثُه، أبي والموت منتصبًا بقامته الطويلة يزحفانِ نحو أمي، تكالبا عليها. فجأة، دَفَعَتهُ وحاولت الهرب، لكنّه أمسكها ودفعها من الشّرفة، لم يوقظني إلا صوت ارتطام جسدها بالأرض، أخدت أصرخ وأبكي، وعندما أدرك أنني واقفة وراءه حملني كأرنب، ودلّى راسي ليريني ضحيّته بكلِّ فخر، وقال: ستكونين التالية إنْ أنت نبست ببنت شفة.
عندما حضرت الشرطة أخد أبي ينتحب ويتلوى كثعبان، ويلطم كالنّسوان، قال لهم إنّ أمي مجنونة وأكّد عمي وزوجته ذلك وكل الجيران، وإمام المسجد قال إنّ بها جنًا عاشقًا دفعها للانتحار، وأنا صرخت في داخلي كاذبون… لقد قتلها.. لقد قتلها.. لا تُصدِّقوه.. أمّي لم تنتحر.. لقد قتلها.
لعنت ضعفي وخوفي وقلة حيلتي، لا يستحقُّ مِيتة هنيئة كالتي سأهبها لها، يجب أن يموت حرقًا، ويستحيل رمادًا، يجب أن يُدفن حيًا في عمق عقر قاع المحيط، لعنتُ أبي فهو قاتلُ أمي قبل عشر سنوات، والسبب المباشر في موت الأمل الذي كنت أحيا من أجله قبل ثمانية أيام، لعنتُ نفسي لأنني في اللقاء الأخير كنت مستعجلة ومستهترة فلم أحلِّل خطاب حسام، ولم أستوعِبْ إشاراته، كنت أظنُّ أنّه يهلوس من فرط الثّمالة، حين قبّلني قال:
ـ علياء لماذا يجب أن نخضع للأهواء؟، لماذا نحن عاجزان عن الموت في الحياة؟ لماذا نحيا على أمل أن نعيش تناسلات ألوانِ ومعاني الولادات الثانية علّها تُنصِفُنا؟ لماذا نخضع للقَدَر؟ لهذا العبث الوجوديّ؟
قاطَعتُهُ كبلهاء دون أن أسأل عن المغزى من قوله، وأخدتُ اطمئنُه:
ـ لا تقلق يا حسام، أبي سيقبلُ عاجلًا أم آجلًا، وإن رفض سأهربُ معك.
ـ أقسم أنّني لن أتزوج غيرك، ولو كلّفني قراري هذا حياتي.
ارتَسَمَتْ على وجهه ابتسامة عريضة، قبَّلني ثانية، وقال :
ـ اتفقنا إذن، نلتقي غدًا في نفس الموعد. علياء تنتظرنا الحياة في الموت معًا، يجب ألّا نرتمي طوعًا ولا قسرًا في أحضان حياةٍ ذليلة تُفرّقنا .
ـ نعم نعم! معك حق، والآن يجبُ أن أرجع للبيت قبل أن يكتشف أمري .
ـ استعدّي غدًا نلتقي !
وهكذا دون وعي مني عاهدته على تكليل قصة حبنا بروحينا، وأن نتشارك ميتة واحدة تنقلنا للأبديّة اللانهائيّة، هناك حيث لنْ يُنَغِّصَ حياتنا أحد. خذلتُهُ حين تخلّفتُ عن الموعد، فانتحرَ وحيدًا. خرق نبأ موته صدري، وقرّرتُ مباشرةً أنْ ألحَقَ به ليعلم أنّني لم أخذله، بدأتُ أفكِّر في الطريقة المُثلى والتي ستجنبني الألم، قطع شرودي وأفقدني بقايا الاتّزان أبي بعد أن دَفع الباب، وهو يلوي شاربه الغليظ ويقولُ بكلِّ حقارة وسخرية: الآن مالك غير ابن عمِّك، فصعلوكك الوضيع انتحر، جهِّزي نفسك زفافك قريب ههههههه، الحمد لله هدّدته أنا وعمّك بالقتل إن طرق بابنا ثانية، لكنّ عزرائيل كعادته في صفّي .
سكن الوجود بعد كلماته، واشتعلت نار لافحة في صدري، واستيقظ الحقد القديم. عزرائيل في صفّه؟ في صفّه؟ عزرائيلُ في صفي؟، عزرائيل في صَفِّ مَنْ؟ عزرائيل أينَ أنت؟
سننتُ السكين جيدًا، غسلتها بدموعي، ثم جلستُ أنتظره، سمعتُ صوتًا يقول:
ـ تمهّلي أخدود الحزن المنحفر في قلبك سيعمل على اقتلاع ذكرى حبيبك الميِّت، كما اقتلعَ ذكرى أمِّك فلا داعي للقتل.
ـ هل هذا أنتَ مُجددًا، سيقتلع ذكرى حبيبي في نفس الوقت الذي يقتلعني فيه من ذاتي، تقصد يا عزرائيل !
ـ كيف تنصِّبين نفسك المقرِّرَ الحاسم لمَحْقِ روح غيرك؟ إنّك تتطاولين على ما ليس من اختصاصِك، ترتكبين جريمة اغتيالٍ لبنيان متكامل، ونظمٍ كونيّة تفوقُنا جميعًا.
ـ أتعلم؟، أنا مَن سيحقق العدالة، كيفَ يَحيى مَن يستحقُّ الموت، ويموتُ مُسْتَحِقُّ الحياة؟
ـ ليسَ من شأنِك، الموت ليس موضوعًا للتفكير والتّأمل، بل هو تجربةٌ تُعاش، نهاية حتميّة ومرحلة انتقاليّة، والكائن الموجود منذُ أن يعي نفسه، يصبحُ مُرشحًا للموت، وتستمرُّ حياتُهُ في النّمو في ظِل حداده، وليس من اختصاصِهِ إنهاؤها.
ـ لكنّك تستعملُ جبروتك السّاحق الماحق ضدَّ الأبرياء.
حسام كان عزائي الوحيد في هذه الدنيا البئيسة التي لم أختر المجيء إليها، وأخدتَه دون شفقة، يجب أن تضيف لقائمتك روحًا خبيثة هذه الليلة، أبي قتَلَ أمي، هو السّبب المباشر في موت حسام إنّه قاتِل، وانا قاتلةُ القاتل.
ـ حسام اختار الموت، وأنت بقرارك تتطاولين على سلطةِ واهِبِ الحياة !
ـ لكنّ الحياة مَرهونةٌ بتصرُّف اللاعِبِ بالموت!
ـ لا دخل لي! أنا عبدٌ مأمور، وإنْ قتلتِ والدك هنا فالقتلُ جريمةٌ مفتعلةٌ تستوجب العقاب.
ـ لا سيكونُ قَدَرًا، لا يجوزُ مُحاكمة القاتل لكونِهِ حَقَّقَ قَدَرَ شخصٍ ينتظر الموت، والموت ينتظرهُ لا محالة!
ـ تمهّلي، ستندمين!
صمتُّ برهةً، وأخدت أسترجع ذكرى اللقاء الأخير، استرجعتُ كلماتِه: (علياء تنتظرنا الحياة في الموت معًا). أدركتُ هنا أنّ معضلتي أكبر من حقدي على أبي الطاغية، أنّني منذ ماتَتْ أمّي اتخبّطُ في ثنائيّة الوجود والعدم.
ـ معك حقٌّ يا عزرائيل، أنا نادمة على الأيام التي عشتها بعد ارتقاءِ حُسام، نادمةٌ بشدّة فكيف أجدهُ الآن.
ـ ما قصدُك؟
ـ بما أنّ محور حياتي الموتُ المحتوم، والمحسوب على حياة محسوبةٍ بدورها على الموت، لماذا أنا هنا؟، عزرائيل، أنت تزحف نحونا ببطءٍ ولكن بعزيمة لا تلين، الموت والحياة صورتان لحقيقة واحدة، حتميةٌ تلازميّة، خوفٌ سرمديٌّ من المجهول الذي سيدفعنا للأبديّة اللانهائية.
ـ هل تنوينَ اللّحاق به؟، هل أنتِ مُصِرّة على هتك النواميس ومنازلة القَدَر؟
ـ لا، أبدًا، فأنا لا أسعى للموت؛ الانتحارُ الذي ابتدعته الإرادة ليس رغبةً في الموت، بل نَحْوٌ آخر لإرادة الحياة، فالموت لا يضيفُ أيّ تغير لوجودنا، الموت ليس إلا خروجًا عن طورِ الجسد، “إنّهٌ أقصى أشكال الحريّة وأعظمها”.
كانت عمليةً سريعة بسيطة، حتّى الألم ينجلي بعد دقيقتين فقط، في طور الروح، الغيبُ مكشوف، والصّرح مألوف، تتضاعفُ قدرات الحواس مئات المرّات، والوعيُ آلافًا. أستغربُ وأتساءل دفعةً واحدة، أستغرب كيف أنّ الانسان يصبرُ على عبوديّة الجسد الضعيف وقهر الأقدار! وأتساءل أين حسام الآن؟
“الموت نوعٌ أقصى من أنواعِ الحريّة”، سارتر.
* نشرت هذه القصّة في المجموعة القصصيّة “بلا هوادة” الصادرة عن جمعيّة كُتاب الزيتون، شتاء العام 2022.
Afanine
مجلة أفانين: هي منصّة إلكترونيّة حرّة، وشاملة، ومتنوّعة، تديرها جمعيّة كتّاب الزيتون والمعهد اللغوي الأمريكي بالدار البيضاء، وتضع على عاتِقها أن تفتحَ نافذةً، للكتّاب والفنّانين في المغرب، نحو آفاق الإبداع. تنشر المجلة أعمالًا أدبية وفنية للكتاب والفنانين الشّباب بالمغرب، بالإضافة إلى مقابلات، وبروفيلات، وفرص، وصور فوتغرافية، وغير ذلك. تروم المجلة تسليط الضّوء على إبداعات الكتاب والفنانين الصّاعدين بالمغرب.