في عمَله الأخير: عبد العزيز الراشدي يكتبُ جِراحه

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، إيمان آيت بابا 

 

“أنا ابنُ العبورِ. الصحراءُ تغسِلُ قلبي”.

اقتنيتُ العناوينَ المُبتَغاة بسُرعةٍ واتّجهتُ للدّفع. حمْلَقْتُ بِاتجاه الكُتبِ (الجديدة) المُكدّسةِ على الطاولة العريضةِ للمرَّة الأخيرة. أسمعُ نداءَ الكتابِ يتعالى. فتقعُ عينَيّ على غِلافه: «جراحُ المُدن من درعة إلى شيكاغو».

ينقُلنا الكاتبُ عبد العزيز الراشدي في رحلاته المُتباينة وإقاماتِهِ الأدبية في أماكن عدّة، في عمله الصّادر مؤخرًا عن دار المتوسِّط بإيطاليا، لنسافرَ بصُحبته نحو شيكاغو، براغ، بلجيكا، القاهرة، الرباط، مكناس، تيزنيت ومسقطِ رأسه؛ تينزولين. وغيرِها. إنه كتابٌ بين الذهاب والإيّاب، تحت سيلٍ من المشاعر المُختلطة برَملِ الصحراء؛ هذا الكتابُ/ الرّحلةُ، والرّحلةُ/ الدّهشة، والدّهشة، الاكتشافُ، والاكتشافُ/ التحوّل، والتحوّل/ الألمُ، والألمُ/ التجربة.
يكتبُ الراشدي نصوصه بشكل مُتوازٍ، نصّ في الداخل ونصّ في الخارج، في محاولةٍ منه للبحثِ عن تقاطُعاتٍ بين هذين الخطّين. نكتشفُ معه هذا الداخل المُتذبذبَ، التائهَ والمهزوم في غالبيّته، ثم ننتقل نحو الخارج المُنفتِح، المتحرّر والمتسامِح، وهكذا دواليك، وصولٌ يعقبه انطلاقٌ مُباشر نحو عالمٍ آخر. إلّا أنّ الكاتب لم يسقُط في فخّ جَلدِ الذّات؛ بل على العكس، فهو يعتزُّ بأصله؛ أيْ انتمائِهِ للهامِشِ الذي احتضَنه، هذا الهامشُ المُتواري خلف القساوةِ/ القِشرة.

نجحَ الكاتب في تأثيثِ الأمكِنة، بحيثُ يُدخِل القارئ في أجوائِها بكل المهارات السردية والوصفية الضّاربة في التمكّن والحِرفيّة، وما يُميّزُ نصوصَ الراشدي أنها لا تستنزِفُ قارئها. نعم، إنّها تُريحه وتدفَعُه لطرح الكثير من التّساؤلات. نصوصٌ مُكثّفة كـ«الدّبس»، مُعتّقة داخل زُجاجاتِ الذاكرة، بعيدةٌ عن الحشو والثرثرة السّردية، إنها تجسيدٌ مثاليّ لمقولةِ: (ما قلّ ودلّ) بكل ما تحملُ اللغة من سلاسةٍ وذوقيّة في الوصفِ. أستعملُ لفظ الذّوق هنا، لأنّه من الممكن تذوّق كلماته فِعلًا، لغةُ الطعام كما تُسمّيها إيمان مارسال، إنه مُتمرّسٌ في انتقاءِ الكلمات المُناسبة، بل إنه يُبدعُ تارة فيُدمج كلماتٍ من الدّارجة يتطلّبها السياقُ.

الكتابةُ التي تدقّ بوّابة قلبِ الكاتبِ؛ بوّابة الصحراء تحت أنغام (تينارِوين)، فتجعلهُ يستعيدُ هذا المكان الملحميّ، والنقيّ، منبعُ التاريخ، وهي كما يقول عنها إبراهيم الكوني: “الصحراءُ التي تُطهّرُ بدنها بالظمأ هي التي تُطهّر روحَ الإنسان”.

اتّخذ الكِتابُ بُعدًا آخر؛ كونَهُ احتفاءٌ (من جانب آخر) بالمدينة، بكل ماتحملُ من تناقُضات، الراشدي يعترفُ لنا بأن المدينة مُلهِمَته، وتُثير حواسّه للإبداع، وهكذا فهو يُفضّل الكتابة داخل الأماكن التي تعجّ بالناس والصّخب والأضواء؛ يكتبُ في المطار والقطار والحانة والمقهى، الحرَكة سيّدةُ الموقفِ، بعيدًا عن «كليشّيه» الكُتابّ: الهدوء والطبيعة.

رغمَ أنّ الراشدي كتَب نفسَهُ في هذه الرحلات (دون أن يستفيضَ)، إلاّ أنّهُ جعل للآخر نصيبًا بدورِه، سواءٌ أكانت نظرتُه للآخَر من (الداخل) أو من (الخارج)، وسواءً أكانَ الآخرُ جحيمًا أو نعيمًا، في مزاوجة جميلة خطّها قلمُ الكاتبِ الذي يقول عن نفسِه أنّه «بدويٌّ» وهو في واقعِ الأمر «مْطوّر»؛ شخصٌ يكتبُ نصوصَه تحت موسيقى الجاز مُنتشِيًا، ويكتبُ خيالاتهِ التي يُسمع دويّ حروفها أثناء سقوطِها على الورق البارد، ينتقدُ واقعَه؛ سياسيّينَ وحُكّام وباطرونات، بسردٍ غير تنظيري (بسُخرية سوداء) يرفضُ من خلالها الواقع؛ الواقعُ الذي سُمّيَ بالحقيقةِ، سعيًا لتغييرِ العقلية (ولو جُزئيًا).

دفَعت بعض النصوصِ كاتبها إلى اختبار مناعةِ ذاكرته، بحيث أعادَ كتابة نصوصٍ ناقصة بتفاصيلها الهشّةِ على أطرافِ المُتذَكّر، بعد أنْ أوشكت على الاندثارِ، كما حدث له حين نسِيَ مُذكّرته في المطار بعد العودة من رحلته في براغ، ليفقد بذلك مسودّات ولّتْ دونَ رجعة.

إنها أخيرًا خُلاصةٌ لرحلاتٍ وجدانيّةٍ حول تجاربَ أصيلة، صادقة.. ومُتفرّدة، اخترَقت حدوديّةَ الزّمن لكاتبٍ يعيشُ ويكتُب ويُضمِّدُ جِراحَهُ في آنٍ، إنها دفاعٌ مُستميتٌ عن الإنسان والحُبّ والأدبِ.