اصطدامُ التّراث الشعريّ بواقع الحداثة

خاص بـ”مجلّة أفانين”، نزار لعرج

 

هل الشعرُ هو الكلام الموزون المقفّى؟ كما درسنا في مقرّراتنا الدراسيّة أم هو شيءٌ آخر. يقول الشاعر نزار قباني، في مقدّمة ديوانِه طفولة نهد: “قرأت في طفولتي تعاريفَ كثيرةً للشعر، وأهزلُ هذه التعاريف: «الشعر هو الكلام الموزون المقفّى»، أليس من المخجل أن يلقن المعلمون العرب تلاميذهم في هذا العصر، عصر فلقِ الذّرة ومراودة القمر مثل هذه الأكذوبةِ البَلهاء”، ويكمِلُ قبّاني “أستطيع في أيّ موسمٍ أن أغلِقَ نافذتي وأمدّ يدي إلى مكتبي لأنعمَ بالورد والماء وبالعطر وبزقزقة العصافير المغنّية وهي تنفجر من دواوين المتنبي وبودلير وبول فيريلن وأبي نواس وبشار، فتحيل مَخْدَعي إلى مزرعةٍ يُصلّي على ترابها الضوء والعبير”.

لأجلِ هذا كُلّ، كَانَ رأى أنّ الشّعر «كهربة» جميلة لا تعمر طويلًا، تكون النفس خلالها بجميع عناصرها من عاطفة وخيال وذاكرة وغريزة، مسربلةً بالموسيقا. وإنّ هذه الكهربة الجميلة مرت بتطورات عديدة لتجري مع السُّلم الزمنيّ، بدأت في ميدان صنف بعدها بأعمق وأبرز ميادين الشّعر، صور بدقة متناهية حياة العرب وبطولاتهم حينها وتميّز بالبداهة والشفويّة، ثم تطوّر وتغير في الفضاءِ القرآنيّ، فحضر التأمّل وظهرت الاستعارات «المبهمة» واستمرّ في التطور حتى ظهر شعر التفعيلة منتصف القرن العشرين.

رأت نازك الملائكة أنّ حرية الشاعر دعامة الشعر فالإبداع هو الخروج عن المألوف وهذا الخروج يحتاج تجاوز القواعد التراثيّة؛ لذا ناصرت نازك قولة برنارد شو: “اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية”، إلّا أنّها عادت لتقعد لهذا الشعر الحديث في كتابها قضايا الشعر المعاصر.

جدد الشعراء القصيدة لغةً وتصويرًا، وإيقاعًا كما يخبرنا أحمد المجّاطي، إنّنا أصبحنا أمام لغاتٍ متعدّدة تختلف باختلاف تجربة الشاعر، ونموُّها كان يتم في اتجاهاتٍ مختلفة، وأصبحت الصّور الشعرية نابعة من التجربة واحتوت الرمزَ والأسطورةَ أيضًا، أمّا الايقاعَ فكانَ التغيير فيه كبيرًا، واستبدِلَ نظامُ الشطرينِ بالأسطر، والبحر بالتفعيلة، واستعمل شعراء الحداثة بحور الخليل الصافية واعتمدوا على قوافي متعدّدة، ويقول “إنّ هذه القافية التي كانت ضوءًا أحمرَ أو علامة وقوف أصبحت محطة وقوف اختيارية”.

بين مطرقة محاكاة القدماء وسندان التجديد، انقسمت الرقعة بينَ محافظٍ ومُجدّد، ولعل حادثة العقاد وحجازي تعد من أبرز الاصطدامات التي حدثت بين التراثِ الشعريّ والحداثة، معركة ثقافية قادها المصريّ حجازي بعد واقعة المجلس الأعلى للفنون والآداب الذي كان يترأسه الأديب العقاد.

ويقول حجازي “في الحوار الذي دار بين جيلي وجيل العقاد، كان العقادُ فيه قاسيًا وحادًا ووصل الأمرُ بنا إلى أنْ يهدِّدَ بالاستقالة من المجلس الأعلى إذا شاركنا في مهرجان الشعر الذي يقامُ في دمشق… فقد رجانا يوسف السباعي آنذاك، بعد أن وصلنا إلى دمشقَ، ألّا نشارك حتى لا يكونَ ذلك سببًا في استقالة العقاد من المجلس الأعلى للآداب”.

بعد هذا عاد حجازي إلى مصرَ، وقرّر كتابة قصيدة يهجو فيها العقاد بشكل تقليديّ وبنظام الرويِّ القافيةِ والشطرين، وندم عليها فيما بعد، قالَ في مطلعها:

من أيّ بحرٍ عصي الريح تطلُبُهُ

إنْ كنت تبكي عليه نحنُ نَكْتُبُهُ

نهايةً، ربما يمكننا القولُ إنّ النظمَ المرسلَ المنطلقَ تمخَّضَ فأنجبَ (شعرًا نثريًا) أصبح موضع خلاف وساحة جدال أخرى.