على خشبة «البولفار».. وقفتُ

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، شيماء قويون

ما إنْ صعدتُ الخشبة حتّى صرخ الجميع: «كوزينتك، كوزينتك». أتذكرُ المشهدَ الآنَ و قد مرّ عامٌ كامل عليه، فأضحكُ وأتعجّب من  إصراري على عدم النزول من المنصّة: مِن أين أتيتُ بكلّ تلك الجرأة و العناد؟. أستحضر جيدًا الصوتَ الذي كان في أذني حينها يردِّدُ: «ماتسمعيش ليهم، كملي». المضحكُ في الأمرِ أكثرَ أنّني قبلَ ذلكَ الحدثِ بنحو إنتي عشرةَ ساعةً كنتُ عائدةً من يومٍ طويلٍ في العمل، قبلَ أنْ يرنّ هاتفي من رقمٍ لا أعرفُهُ، يخبرني أنّه تمّ اختياري للمشاركة في «الأوبن مايك (Open mike)»!. و أنّني، قبلها بأربعٍ و عشرينَ ساعةً، كنتُ أتحدثُ مع صديقي رضى حين اقترح عليّ أنْ نملأ استمارة المشاركة في ذلكَ الحدثِ،  فأجبته بسخرية أنّه لن يتم اختيارنا أبدًا.. نحن نقول شعرًا أمّا هم فيعزفون الموسيقى، فأقنعني حين قالَ لي: «حتّى لو لم يتمّ اختيارنا فلندعهم على الأقل ينتبهون إلى أنه هناك مجموعة من الشباب يقومون بفن يُسمّى «صلام (SLAM)» و أنه يستحق أن يتم إدراجه في برنامجهم للنسخ القادمة من المهرجان». اقتنعتُ بكلامه، وأرسلنا رابط المشاركة لكل أصدقائِنا/ زملائنا الذين نعرفُهم.

أوّلُ جوابٍ جاء على لساني حين اتصل بي عضو اللجنة التنظيمية: «شكرًا على اختياري، لكنّني لن أستطيع الحضور»، و أغلقت الخط بعد أن تبادلنا عِبارات المُجاملة، ليس لأنّي مشغولة حقًا يومها، أو أنّي لن أستطيع التنقل لمدينة الدار البيضاء. بل؛ لأنّني شخصٌ يسبِقُ الخوفُ دائمًا كلَّ أجوبتي حين يتعلق الأمر بتجربةِ أشياءَ جديدة، فأختارُ الجهة الأكثر راحةً وأقولُ…: لا.
جاء أخي في المساء فأخبرتُه بما حصل فقال :
– «من المؤكّد أنكِ جُننت! كيفَ ترفضينَ عرضًا كهذا؟»
–  «أيوب من نيتك؟ أنا نطلع ف البولفار!»
– «شيماء، راه نتي للي واش من نيتك، واش عرفتي شنو هو البولفار؟»
أكثر الأشياء جنونًا، ستحدث لك حين تتوقفُ عن قولِ لا و تبدأ بقول نعم. أعدتُ الاتصالَ بالرّقم السابق، و بكلِّ أدبٍ سألته إنْ كانَ عرضُه لا يزالُ قائمًا، وبرحابة صدرٍ فاجأتْنِي أخبرني بانّه ما زالَ قائمًا، واتّفقنا أن نلتقي (هناك) على الساعة الثانية زوالًا من أجلِ  «البروفا». في اليوم التالي، وفي تمام الساعة الواحدة و خمسٍ و أربعين دقيقةً كنتُ أقف قربَ باب الملعب حيث يُقام المهرجان، يرافقني أخي و دقاتُ قلبي المتسارعة.
كنتُ وحدي فتاةً وسط تسعة شباب آخرين، جاؤوا جميعًا ليقدّموا موسيقى «الراب»، و كنتُ هناك من أجل إلقاء الشعر، بطريقةٍ أحبُّ أنا وأصدقائي/ زملائي الشعراء أن نُسميها طريقةً شبابيةً في إلقاء الشّعر و(إخراجه من غار النّخبوية). كنتُ حضّرتُ نصًا بالدارجة أتحدثُ فيه عن المغربِ الذي أحلُمُ به. تخيّلت أنّ الجمهور  سيتفاعلون معه، وسيشعرون بكلماته قريبة منهم، وسيلقى نفس التفاعل الذي لقيَهُ حينَ نشرتُهُ قبلَ سنواتٍ على شكل فيديو في صفحتي.

كان العرضُ سيبدأُ تمامَ الساعةِ الرابعة، قبلَها صادفتُ العديدَ من الفنانين/ (مُغنّي الراب) الذين أحبّهم، كنتُ أنا وأخي مستمتِعَيْن جدًا بالتجربة الحصرية التي حظينا بها ونحن نحضر كواليس تدريبات الفنانين على المنصة الرئيسية. استدرتُ نحو أيوب و أخبرته أني جدّ سعيدة الآن. ثم سألتُهُ ولم أكُن أمزح: «ما رأيكَ أن أعود الآن من حيثُ أتيت؟»، رمقني: «شيماء، أنتِ هنا الآن، هذه لحظتك، لا تهربي منها..ريلاكس ما غادي يطرا والو».

عند الرابعة، فتحوا الأبواب ليدخل الجمهور، و كلّما اقتربتْ فَقرتي، فقدت الشعورَ بركبتَيَّ، و أردتُ  التراجع. التحقت بي قريبتي من أجل الدّعم، رؤيتها هناك خففتْ عنّي التوتر شيئًا ما حين قالت: «هذه ليست أوّل مرة تصعدين فيها خشبةً أو تلقينَ شِعرك أمام جمهور.. نتي مولفة!»، معها حقّ، فكرتُ، أنا أقف على الخشبة منذ نعومة أظافري حرفيًا.. لما كلّ هذه الرّهبة ؟، حينها تقدّم نحوي أحدُ المُنظمين وقال: «ستصعدينَ بعد لحظات»، فكانََ.. كأنّ كلّ التشجيع والكلمات المُطمئنة تبخرت، وعادت دقات قلبي للتنافُسِ مع مكبر الصوت الذي كان بجواري حولَ مَنْ منهُما سيقضي عليّ أولًا. في تلك الأثناء وصلتني رسالةٌ نصية من رِضى، سبب وجودي هناك، يقول فيها بالحرف: «حظ سعيد شيماء، أنا مازال برا معطل شوية، لا تتوتري، كوني على طبيعتك ولا تأبهي لتعليقاتهم، لن تَسلمي من كلامهم لكن لا تستسلمي له»، وقبل حتّى أن أستوعب على مَن يتحدث رضى؟ مَن هم الذين لن أسلَمَ من تعليقاتهم؟ جاء أحدُ المُنظمين و«جرني» إلى المنصة.. فَصَعدتُ.
ما إنْ وقفتُ هناكَ، حتّى رأيتُ موجةً من البشر، لم أكن أرى الوجوهَ بل مجردُ رؤوس تزاحمت أسفل المنصة، و كانَ غبارٌ أحمر يملأ المكان. لم أفتح فمي بعدُ، ولم أكن قد وقفتُ حتى أمامَهم حين بدأوا بالهُتاف «كوزينتك كوزينتك»، فبمجرد أن أخبرهم المنشِّطُ أن الفقرة التالية ستقدمها فتاة حتّى تعالت أصواتهم، كأنّنا في زمن «وأد البنات»، نطقت عقلياتهم المتأخرة مُعبّرة عن واقعٍ مُؤسفٍ لا يزال حضور المرأة فيه حِكرًا على أماكن كالبيت والمطبخ وغرفة النوم، واقعٌ مُحزن لازال فيه الذَّكَرُ يظنُ أنَّ من حقه أن يخبرنا، نحنُ النساء، أين علينا التّواجُد، واقع «حامض» يُلقي نُكتًا سخيفة: «سيري لكوزينتك» وينتظر مني/ مِنّا أن نضحَك.
لماذا بدأتُ بإلقاء كلماتي رغم أنّ أغلبهم لم يكن يستَمِعُ إليّ؟، ربمّا لأنّي كنتُ أحمل في يدي مكبّر صوت، أمّا صوتهم فلم يكُن له أيُّ صدى، ربما.. لأنّي حينَ نزلتُ، بعد دقائقَ كانت هي الأطولَ في حياتي دون مبالغة، تقدمت نحوي أربعُ فتيات أخبرنني أنَّ كلماتي نالت إعجابهنَّ، وأردن أن يأخذنَ صورة معي، لأني ما إنْ نزلتُ من المنصة حتّى عانقني أخي و قريبتي و أبديا فخرهما بي.
يُذكرني «انستجرام» اليوم بكل ما حصل منذُ عامٍ، فأنتبه إلى أنّه كان عامًا مليئًا بنعم، بعد أن كنتُ قبلها أختبئ وراءَ (لا) المُريحة.. الآمِنة.. التي لن تأخذني يومًا إلى أيّ مكان.