بحر!

خاصّ ب”مجلّة أفانين”، إيمان صدّيقي *

استيقَظَتْ شمس مفزوعةً من نومِها بعدما داهَمَتْها أعراضُ نَوباتها، مدّت يدها المرتعشة نحو المنضدة الخشبيّة الصغيرة الفاصلة بين سريرها وسرير جهاد؛ محاولةً تناول قنينة ماءٍ علّها تخفف من حرارة جَسَدِها، تنفّست بعمق ولملمت شتاتَ نفسها، بعد دقائق قلّبت رسائل هاتفها بحثًا عن أخبارِ جدّتها المريضة، متمنية من أعماق رُوحها أنْ لا تجدِ رسالة تحملُ الخبر الذي يُرعبُها. مشت نحو سريرِ جِهاد ببطء شديدٍ، وقلبها يكاد يَخترقُ قفَصَها الصّدريّ، دَنَتْ منها وراقبت بهدوء صوتَ أنفاسِها البطيئة، فسرى شعورٌ عظيمٌ بالطمأنينة في أوصالِها.

تناوَلَتْ مِلفها الأزرق من رفّ المنضدة لتراجعه في انتظار استيقاظِ جهاد في وقتهما المُعتاد. على بابِ الكوخ القديم بدى لها دنيال راكضًا من بعيد، فسَرَتْ في جسدها القشعريرة التي تسبق دائمًا كلَّ المُهِمّات التي ينفذانِها سويًا فهو لا يأتي مع خيوط الصّباح الأولى إلا إذا كانت هناك مهمّةٌ ما.

قال لها لاهثًا دون أن يتوقّفَ عن الركضِ نحو الشاطئ الصّخري:

ـ الحقي بي كادوا يغرقون جميعًا انتشلوهم بصعوبة!

كانت تعرفُ أنّهُ لنْ يَسمَعَها لكنّها صَرَخت:

ـ المخيّم مكتظٌ على آخره، سيعتادون ككل اللذين سبقوهم!

في طريق نزولها إلى الشّاطئ الصخري رأت القارب المطاطيَّ من بعيد، جهّزت الأوراقَ وغطّت شعرها بالوشاحِ الأبيض الذي كانت أهدتها إياه إحداهُنّ، وصلت نحو المجموعة الأولى كانوا أخرَ مَن ينزلُ من القارب، وكانت إحدى صغيراتُهُم لا تزال مستلقيةً داخله، عبر ذهنها طيفُ الفكرة التي تهابُها وعادت تكمل عملها كما اعتادت. كانوا عائلة من أربعة أشخاص، أم، أب وطفلتين كانت إحداهما النائمةُ في القارب، تراجعتُ لحظةً إلى الخلف ثم أخذتُ نَفَسًا عميقًا، ونزلتُ لتسجيل بياناتِهم مُتّجهةً نحوَ الأب. لا تعرفُ ما كانت تَعنيه ملامِحُه بالضبط، لكنّها كانت فارغةً كَكُلّ الذين سجلت بياناتهم قبل ذلك.

ـ صباح الخير يا عم الحمد لله على سلامتكم، إذا كان ممكنًا أريد بياناتِ عائلتك كي أسهِّل أمرَ ولوجِكم إلى المخيّم.

قال محدقًا في الفراغ:

ـ عائلتي لمْ تَعُدْ مَوجودة.

لمْ تفهم قصده، لكنّها في اللحظة ذاتِها رأت خَفَرَ السّواحل يأتون بالكيس الأبيض الذي تعرفه جيدًا.

جَرّوا جَسَدَ الصغيرة المتجمّد، وعيناها شاخصتانِ إلى السّماء، كانت ثيابُها جديدةً كعادة كلّ اللذين يعبرونَ نحو الجزيرة، وكانت ضفيرتاها ذهبيتان، بدا لها أنّها ورثت لونَ الشّعر من والدها. حين وضعوا الكيس انكَمَشَ الوالد على جَسَدِهِ، وارتعش كما ارتعش كلّ اللذين فَقَدوا أطفالَهُم هنا قبله، بكى كلّ دموع قلبه بصمت، وصَغيرتُه الأخرى تنام بجانبه، وقفتْ الأم بجانب الذي يُحاول إغلاق الكيس الذي ترقدُ فيه الصّغيرة فصاحت به بلهجتها الشامية:

ـ الصّغيرة نائمة، لا تغلقه عند وجهِها ستَخْتَنق.

أجابها بإنجليزيّته المَخلوطة بلكنةٍ يونانية:

ـ سأفعل.

أشاحَ بوجهِهِ عنها، وأغلقَ الكيس، وحَمَلَ مع رفيقِه جثّة الصّغيرة. بقيت تحومُ حولهم لتأخذ بياناتهم بلا جدوى، كان هدوءُ الأمِّ عجيبًا، نزعت حِجابها وجلست قُبالة البحر، ونظرت إليه بمقلتَيها الزرقاوين حدَّ التماهي معه، هو الذي أخذ أنفاس ابنتها.

انحَنَتْ شمس نحوَها فسألتها عن سنّها، أجابت بهدوء:

ـ لا أدري ربما ستّة وثلاثون ربما أربعون.

ـ لا يمكنُ أن أكتب هذا سيّدتي، حَدِّدي!

نظرت الأم نحوها بابتسامةٍ هادئة وقالت:

ـ هذه البلاد جميلة، سنكون سعداءَ هُنا، ستدخُلُ الفتاتانِ المدرسة حين سنصِلُ ألمانيا، ستتعلّمان لغةً جديدة سنكون بخير.

تجاوَزَتْها نحو البقيّة؛ لأنها تعلم جيدًا أنّها لن تستطيع أخذ بياناتهم ستعود إليهم لاحقًا، سجّلت بيانات الجميع، كانوا أربعين شخصًا. انطلقت نحو المخيم في مقدمة الحافلة رفقتهم جميعًا، حاملين خيباتهم وخذلان الوطن وأحلامهم، تكدّسوا ككل اللذين سبقوهُمْ في باحة المخيم الخلفيّة، بَصَمُوا واحدًا تِلوَ الآخر. أنهتْ عملها واتجهت ببطء نحو المقهى المعتاد كانت جهاد تنتظرها هناك.

مرّت بجانِب مَقبرة المخيّم، كان الأب وصغيرته يقفان بجانب دنيال الذي يشرفُ على دفْنِ الصّغيرة الثانية، جلست تشرب كأسَ شايٍ، فبدت لها سائحةٌ تحمل مِنْشَفَتها وتخطو نحوَ الشاطئ المحاذي للشاطئ الصخريِّ حيثُ تراءت لها صورةُ الأم صباحًا، شرِبَتْ شايها، وتذكّرت عيون الطفلة الشاخصة إلى السّماء، التي انتفض شعبُها في “شرقِ المتوسِّط” لأجلِ أرضِهِم فاحتضنتها في غربِهِ أرضٌ أخرى، وضمّتها إليها، حمَلَتْ هاتفها، وقلّبت رسائله على أملِ أنّ الرسالة التي تهابُها عن جدّتها لمْ تصِلْ بَعد.

*  نشرت هذه القصّة في المجموعة القصصيّة “بلا هوادة” الصادرة عن جمعيّة كُتاب الزيتون، شتاء العام 2022.