لم أخبِر أمّي أنّها ماتَتْ تلكَ اللّيلة!

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، ياسمين طالب

«1»

–  صباح الخير

صوتُهُ الصباحيّ أيقظني من نوم عميق، استيقظتُ خارجةً من إطار (الزّمكان) كالعادة: أين أنا؟، لحظة.. مَن هذا الذي يقاسمُني نفس السرير؟، لحظاتٌ ثمّ تعودُ إليَّ الذاكرة، فأتساءل باستخفافٍ من نفسي متى سألتُ هذا السؤالَ أصلًا؟؛ أنا التي أنهض كلّ يوم لأرى وجهًا مختلفًا يشاطرني نفس السّرير. بدأت بلومِ نفسي لأنني لم أستيقظ قبله وأذهب بكلّ هدوء.. (مثلَ دائمًا)، لماذا كان عليّ أن أستغرق في النوم؟ حسنًا، لم يكن بإمكاني ذلك أساسًا فهذا الأبله لم يدفع لي بَعد.

–  «واش تقدري تطيبيلي الفطور؟»

–  نعم؟!

–  أجبتُ مستغربةً وَقاحته !

–  «الفطور!.. سمحلي سالات (l’abonnement)»

لمحتُ عينيه تمتلئانِ بالخيبة بعد كلامي. فكّرتُ.. إنه فطورٌ فقط، وأساسًا بدأ هذا الصباح بشكل سيء جدًا، فطور واحد لن يضرّ. نهضتُ وبدأت في إعداد الفطور بسرعة؛ “أريدُ لهذا الصّباحِ أن ينتهي”، وفي أقرب وقت .

بدأنا في احتساءِ الشّاي، صامِتَيْن، ثم في لحظةٍ توقف عن الأكل ونظر إليّ :

–  شكرًا

–  على الفطور؟

– لا؛ لأنّك ذكرتني بالوطن..

– «براد ديال أتاي والخبز بالفرماج هوما اللي فكروك؟»

 قلتُها مستهزئةً، كأنّي أحاول أن أجعَلَ الحوارَ أكثَرَ سطحيّة!

–  ربّما، ربما حين تبتعد عن وطنك تبحث فقط عن شيء يحمل رائحته، وأنتِ ألا تشعرين بالغربة هنا؟

–  لا بالعكس..«بيخير».

أنهى فطوره وضع ببطء، حزمةً من النقود على الطاولة تفوق الثمن الذي اتفقنا عليه بكثير، ابتسم لي بهدوء وقال:

–  سأخرج الآن، يمكنك إكمال نومك، لقد كانت ليلة رائعة، وأيضًا كان صباحًا جميلًا مثلك.

حسنًا، يبدو أنه ليس بالوقاحة التي توقعتها، لقد رأيت أشخاصًا أكثر قبحًا ووقاحةً، هذا ما يفرضه (سوق العمل)، لكنني فعلًا أغتاظ مِمَّن يظنون أنّهم جيدون لمجرد خروجهم قبلي أو دون إيقاظي، أنا التي أحاول دائمًا النهوضَ باكرًا، والذهاب حتّى قبل أن يحلّ الصباح، قد يبدو الأمر غريبًا، لكن حتى لو كان الأمرُ كلّه عبارةً عن ليلةٍ واحدةٍ فأنا أفضِّلُ أن أترُكَ بدلَ أن أُتْرَك.

خروجُ كلِّ رجلٍ من كل غرفة مختلفة، وأنا أعرف أنه لن يعود مجددًا، يذكرني فقط بنفس الجرح، تلك الليلة الباردة التي خرج فيها أبي.. ولم يَعُد، تلك الليلة التي شعرتُ فيها أنّ تركِي هَيّنٌ لدرجة كبيرة، طفلة وحيدة تنظر إلى الباب، تنتظر أن يفتح مجددًا، لكنّها تدرك أنّه بكل بساطةٍ تمّ التخلي عنها. أنظرُ إلى البابِ مجددًا ثم أبكي، بكاءٌ هستيريٌ غير مبرّر، أنتظرُ ثم أنتظرُ أن يفتح الباب، وأتذكر! هذا ليس بيتي، بيتي مفقود لا باب له، أنا هنا مجرّدُ دميةٍ تبيع دفئًا مزيّفًا، أنا هنا فتاةُ ليلةٍ واحدةٍ، إنْ لم تكن يقِظَةً وسارعت بالمغادرة، فستُتْرَكُ هي وحيدةً وراءَ الباب .

نهضتُ، غيرتُ ملابسي، وضعت نظارةً شمسية تخفي انتفاخ عينيَّ وخرجت، عليّ أن ألتقي بالأحمق الذي رفض أن يُجدِّدَ إقامتي! لماذا؟ لقد اكتشف المسكين أنّ المال الذي أسدِّدُ به ثمن إقامتي (حرامٌ)، كأنّ خداعَنا للجميع على أساسِ أنّني أعملُ في شركته ليسَ حرامًا. حاولتُ إقناعه بشتّى الطرق، فقال لي بحزم:

–  تريدين تجديدَ إقامتك، اذهبي واحصُلي لكِ على عمل.

خرجتٌ غاضبةً من مكتبه، اتصلتْ أمّي بينما كنتُ ألعن اليوم الذي جئتُ فيه إلى هذا البلد:

–  «ألو ماما واش موصلوكش الفلوس؟»

–  «لا أ بنيتي بغيت غا كنسول فيك وندعي معاك راه وصلوني»

ضحكتُ ساخرةً فهي تتذكر أنْ تدعو معي فقط في بداية كلِّ شهر.

–  «إيوا باينلي على هاد الحساب إلى جيت الدّعاوي غيتقطعو؟»

–  «كيفاش إلى جيت فين غتجي؟»

–  لقد طردْتُ من العمل!

–  ماذا؟!

–  تعلمين بدون عمل لا توجد طريقة لتجديد الإقامة.

لم تسأل لماذا طردتُ، فقط اكتفت بالسّخط على حظي، وحظها أيضًا.. في هذه الحياة .

–  «سبحان الله واخا نكونو كناكلو الحرام!»

تقولُ وهي غاضبة، لا تعلمُ المسكينة أنّها تفعل ذلكَ فعلًا، ربّما تعلم، مَن يَعلم أصلًا، إنّها (جبانةٌ) لدرجة إخفاء الحقيقة حتّى عن نفسها إذا كان الوضع مفيدًا لها .

سكتتْ قليلًا ثم قالت:

–  «وا رجعي رجعي لبلادك وأنهت الاتصال»

صمتَتْ مجددًا، تصمتُ أمي أمام المواضيعِ الكبيرة والصغيرة، تصمتُ وتحرصُ على جعل كل شيءٍ يسيرُ كما ترغب هيَ فقط، صمتُها يستفزُّ كلّ حواسي، تثيرُ أمي شفقةَ من حولها بحديثها عني وعن اغترابي، لقد اعتادت أساسًا سرقة الأضواء حتّى من مشاكلي ونسبتها إليها، بالنسبةِ لأمّي أنا مجرد شيء، شيءٌ تمتلكه، وهي مستعدةٌ لبيعِهِ في أيّ وقت، لا تعلم هي أنّ غربتي بدأت على يدها، بدأت حينَ لجأتُ إليها وأسكَتَتْني

«2»

بعد ذهاب أبي لأسبابَ لازلت أجهلها، انتقلنا للعيش مع خالتي، خالتي كانت امرأةً لطيفةً وساذجة بشكل مستفز، تعتذر دون سبب وتضحكُ دائمًا وترتعدُ خوفًا حين يصرخُ زوجها في وجهها، “خالتي كانت أضعف من أن تحتمل حقيقةً كهذه” كانت قالت أمي. لكنّني كنت أضعفَ منها، كيف سمحت لي أن أحمل تلك الحقيقة وحدي.

بعد محاولات زوج خالتي الكثيرة للتحرّش بي، وتهديده لي بالقتل إذا أخبرتُ أحدًا، في يوم جمعت فيه كل شجاعتي، كل الأمل الذي من الممكن لطفلٍ عاجزٍ أن يمتلكه، لم أعلم كيف يمكنُني أن أُلمِّحَ لأمي فأخبرتُها مباشرةً، أذكر أنّني كنتُ أُسْرِعُ في الكلام؛ كي لا أستوعبه، اختلطت دموعي مع كلماتي، وشعرت أخيرًا أنّني يمكنني البكاء، هنا لستُ مضطرةً لأن أكونَ قويةً؛ أمّي هنا، أمي موجودة وستحميني، لكن كلامها جاء كالصاعقة بالنسبة لي في ذلك اليوم.

–  «ويلي ويلي سكتي سكتي ما تقولي هاد الهضرة لتا واحد».

كانت تلطمُ على وجهِها وتنظر إليّ بحقدٍ وتكرّر:

–  إذا سمعت خالتك هذا لن تسمح لنا بالبقاء، إذا سمعت هذا ستموت.

لا تعلم أمي أنّها هيَ مَن ماتت تلك الليلة، ماتت صورةُ الأمّ داخلي، واستيقظتُ يتيمةً، بلا صوت ثم أصبحتُ صامتة أمام تحرشات زوج خالتي، فتهديدي له بإخبارها لم يعد ينفع، تهديدي الوحيد الذي كنت أملكه خسرتُهُ تلك الليلة، لقد سلبَتْ مني قوّتي الوحيدة، اقتلعتْ جُذوري .

«3»

مشيت في الشارع تائهةً، أينَ سأذهب؟ ماذا سأفعل؟، تذكرتُ حصّتي مع طبيبتي النفسيّة، وقمت بإلغائِها. تقول طبيبتي أنّني أنتقم من جسدي على جرم لم يرتكِبْه، تقول صديقتي الملتزمة والتي لا تعلم طبعًا شيئًا عن عملي أنّ كلّ من تبيع جسدها فاسدة ونهايتها (النّار)، تقول صديقتي المقرّبة إنّني أبحث عن قليل من الدفء بالطريقةِ الخاطئة، وتقول أمي ..ويقول زوج خالتي ..كلّهم يقولون..

وأنا أصمت.

صمَتَ صوتي أمامهم، أمام أوّل «سُكْتِي» خرجتْ من فمِهم، فقدتُ صوتي، فقدت جسدي، فقدت نفسي، فقدت وطني. ربما كنت أنتقم منهم فعلًا، ربما منّي أو ربما من أصواتهم اللعينة التي اخترقت أحشائي، ما الذي سأفقده إذا بحثت عن عمل آخر؟، ربما تلك المتعة التي أشعر بها حين تحدثني أمي عن افتخارها الزائف بي أمام صديقاتها، لطالما سخرتُ منه، منها وكنت أتساءل عن ردة فعلها إذا عرفت عن عملي الحقيقيّ، أنّ ابنتها التي تفتخر بها مجردُ (عاهرة)، وأنّ لها الفضلَ كلّه في هذا.

اتصل بي أحدُ أصدقائي:

–  لقد وجدتُ لك عملًا، تعالي بسرعة.

ذهبتُ معه إلى أحد المحلاتِ لبيع الورود، كنت أشاهد مالكه يقتلع الوردة من جذورها ليضعها في باقة لا تنتمي إليها، ويزين بها واجهة المحل، مع كل وردة يقتلعها كنت أشعر أنني أرتعش، جسدي يتعرّق، جسدي يتمرّد، تسيل دموعي بلا توقّف، تتشنجُ أعضائي كلّها، إلا لساني، لساني اليوم يريد الكلام :

–  هل أنتِ بخير؟ هل تودينَ الجلوس؟

–  إنّها تحاول أن تقول شيئًا..الــ الوردةُ.. الوردة تحتضر، الوردة بدون جذور تذبل، تموت، لا تبيعوها.

استيقظتُ بعدها في المستشفى، يجلس صاحب المحل أمامي، وصديقي أيضًا، ولم ينسوا إحضار الورد، لمحت الوردة الحمراء الجاهزة للذبول، أتساءل لماذا يعتبرونها رمزًا للحب، أيمكن أن يكون الحب بلا جذور؟، اقتربتُ من صديقي قلت له:

–  أ تعلم لا فرق بين عملي القديم والعمل الذي اقترحْتَه عليَّ نحن نبيع نفس الشيء تقريبًا!

–  هل أنت مجنونة؟ ما علاقة الورد بــــِ… بما تفعلين؟

–  نحن الإثنانِ نبيع مشاعر مؤقتة، مشاعر ستذبل بعد ليلة واحدة، أظن أنّ البيع يطاردني على كل حال فهل يمكنك أن تجد لي شيئًا حقيقيًا لأبيعه أم أن الأشياء الحقيقية لا تباع؟

–  لا أعلمُ سبب عمقك المفاجئ، لكن إنْ كان هذا سيريحك فالرجل يملك محلًا آخر تباع فيه النباتات دون أن تنزع من مكانها، تعاملي وكأنك ستعطيها لمَن هو مستعد لسَقيِها، لجَعْلها تعيش.

–  حسنًا، يمكنني البدء بهذا، لكن ماذا عن الإقامة؟

–  لقد تحدثتُ معه هو مَن سيجدِّدُها.

«4»

خرجتُ من المشفى، وأنا ألمس كلّ جسدي باستغراب، جسدي هنا، جسدي ملكي، أنا متصلةٌ به، هو ليس منفصلًا عني، جسدي عاد إليَّ، لقد عاد إليَّ ولأول مرةٍ لا أشعر بالغربة حتّى في المشفى، حتى في مكان لا أعرفه، لقد عدتُ إليّ.

اتصلت أمي، أجبتُها :

–  «نعــــم؟»

–  لقد قرر زوج خالتك المسكين أن يتصل بأحدِ أقربائِهِ هناك ليجدِّدَ إقامَتك.

–  (…………….) عليه وعلى أقربائِهِ وعلى الجميع.

–  «وا لا مبغيتيش رجعي لبلادك و جلسي للأرض» .

–  لن أعود، لا حاجة لي لأن أعود، لم أعد إلى وطني اليوم لكنّه عاد إليّ!

–  «كيفاش؟ واش لقيتي خدمة، جاو….»

أغلقت الخطّ، أسكتّها، أسكتّهم جميعًا، من الآن.. “أنا وطَني”، وهو فقط يحقُّ له الكلام.