إيهاب بسيسو (في عودته الشِّعريّة) يكتبُ للغائبين

الرباط، خاص بـ”مجلّة أفانين”، اختيار التّحرير

مهنّد ذويب *

“حكاياتٌ للغائبين”، تحملُ اللّامُ الملتصقَةُ بلامِ التّعريفِ معنى (لأجل) أيضًا؛ فإنْ كانَ الغائبونَ (بكلِّ أشكالِ غيابهم الطّوعيّ أو القسريّ) لنْ يقرأوا حرفًا واحدًا مما كتب (لهم) و(لأجلِهم)، فإنّ الشّاعر أخذَ على عاتِقِهِ استحضارَهم لحمًا ودمًا.. في “المرايا المُندَلِقة والورقِ والصُّورِ” قبلَ النّصوص الشّعريّة. وإنّ هذا الاستحضارَ يعني تكوُّنَ سؤالٍ أساسيّ: “لماذا غابوا؟”، وبقدرِ ما يبدو السّؤال مُهّمًا وأساسيًا، بقدرِ ما تبدو إجابتُهُ غيرَ ملحةٍ حينًا، أو معلومةً بالضّرورة في حينٍ آخَر، حينَ تكون (البلاد) على مواعيدَ يوميّة مع الموتِ والقصف.

لذا؛ فكأنّنا أمامَ قارئَيْن مُحتَمَلَيْن استحضرَهُما الشّاعر إيهاب بسيسو، في (عودَته) الشّعريّة بعدَ انقطاعٍ، بالعَمَل الصّادر مؤخرًا عن دارِ خطوط وظلال بعمّان، مخالفًا ضمنًا ما قرّره إيميل سيوران، الذي رأى أنْ لا يفكّر الكاتِبُ في القُرّاء، وهي مُخالفةٌ مُبرَّرة؛ فقد حمَل على عاتقه أولًا همَّ إخبارِ الغائبينَ بما جرى (لهم)، وبما (جرى بعدَهم)، وبما (جرى للحَكّاء/ الشّاعر جرَّاءَ غيابهم)، كقرّاء ومتلقّينَ مفترَضين، لن يتلقّوا شيئًا، وهو همٌّ توثيقيٌّ بالأساس؛ يقول:

  “تكتُبُكَ؛ كي لا يضيعَ منكَ رمادُ النّورس”

والتّوثيقُ هذا يحملُ أيضًا غايَةَ (البُوصلة)؛ يحملُ هدفَ ألّا نضِلَّ الطريقَ، وألّا نضِلَّ الطريقَ إلى أنفسنا كذلك، يُكمِل:

“وتَكتُبُ…

كَي لا تَذوبَ مَلامِحُكَ فِي غُموضِ العَتمَةِ…

كَي تَعرِفَكَ فِي الصَّبَاحِ، حِينَ لا يَرَاكَ أَحَد”.

أمّا القارئ الثّاني، فقد استحضَرهُ الشّاعر فيما أسماهُ “تحذيرًا”، كمدخلٍ لنصوصه الشّعرية، فكأنّه وقفَ على مسافةٍ واحدةٍ، بين النّص والقارئ المحتمل، ليقولَ بصوتٍ (غيرِ صوتِ الشّاعرِ): إنّ الإقامة في الألم للفلسطينيِّ هي مؤقَّتُهُ المستمرُّ، وإنّ ما نعيشه كُلّنا، لو دقّقنا، أكثرُ ألمًا مما تستطيعُ اللّغة حمله، فلا تلوموا على النّصوصِ حُزنَها وألَمَها.

بقدرِ ما يمكنُ للثابِتِ أن يسألَ عن مصيرِ المتحرِّك (الغائب/ الغائبونَ) أو يُسائله أو يعاتِبه، فإنّ النّصَّ ورغمَ وضوحِ الفضيحةِ: “شعري فضيحةُ حياتي” كما قرَّر قبْلًا درويش، وكما قرّر الشاعر: “أن تقرأ ما تكتُب. أنْ تكتُبَ ما تحيا”، ينتقلُ بخفّةٍ بينَ غائِبِينَ مقابلَ غائِبٍ واحدٍ؛ فكأنّهم أحيانًا في مكانهم لم يغادروهُ أصلًا.. وهو الغائبُ (ليسَ غائبَ عبد الفتاح كيليطو الذي في المقامة)، وهو الغريبُ (ليسَ أبدًا غريب ألبير كاميو)، وكأنّه يستحضرُ شهريار من ألفِ ليلةٍ وليلة، ليستعيرَ جملتَهُ الشّهيرة: “والله هذه الحكايةُ حِكايَتِي وهذه القصّةُ قصّتي”، والجميلُ أنّه كلّما استحضَر هذه الجملةَ ضمنًا، أتبَعَها بما يدلُّ على غَيْره (هو، يجلِسُ، اصطَحَبَ، أنتَ، يترُكُ…).

اشتغلَ الشّاعر على بياضاتِ الصّفحة بشكلٍ مكثّف، وإنّ نقاطَ الحذفِ الكثيرة جدًا، بقدرِ ما تمنحُ القارئَ أنْ يكون مشاركًا وشريكًا أساسيًا في تكوينِ المعنى الشّعريّ، بقدرِ ما تشيرُ إلى جماليّة الناقص، وقبحيّته في آنٍ؛ جماليّتُهُ، أنّ الحَكيَ (وهو أسبَقُ من الشّعر والسّرد)، يقومُ على تخيُّلِ الصورة، وإنّ إيهاب بسيسو يتركُ لنا مساحةً لاختيارَ ألوانِ ملابسِ الجثّة في الزُّرقة مثلًا، ومساحةً لتخيُّلِ صوَرِ الطّفل، ومُشاهَداتِهِ الطِّفْلة المخزَّنة في الذّاكرة، ومساحاتٍ أخرى كثيرة عبرَ بلاغة الحذف، وتقنياتِ الوصلِ والقطْع، والتكثيف، جعلت من النّص الشّعريِّ، المفتوحِ على التأويل طبعًا، (نصًا/ شريطًا) سينمائيًا يمكنُ مشاهَدَتُه، ويمكنُ لمسُ حِسّه الدراميّ، وربط صوره بخيط دلاليّ ليتكون لدينا شريطٌ شعريّ.

أمّا قبحيّته، فلا ترتبطُ بأنْ ليسَ كلّ الحكاياتِ يجبُ أن تروى، أو أن تروى كاملةً، ولا ترتبطُ بالمجازِ الشّفافِ، لكنّها أكثرُ ارتباطًا وإشارةً إلى أنّ (ديكتاتوريّةً) من نوعٍ ما، تتسلطُ دائمًا على كلِّ حكايةٍ فتبتُرُ أجزاء منها، قد تكونُ دكتاتوريّة السُّلطات السياسيّة والمجتمعيّة وقد تكون دكتاتوريّة الشّاعر نفسه على قصصه؛ وهذا يفسّرُ اليدَ المنسيّة المهملة التي وجَدَها الشّاعر بينَ الأوراقِ ذاتَ مساءٍ على مكتبه.

من معجمٍ واحدٍ هو معجمُ الحرب نهضَت الصّور كلّها صارخةً من غيرِ هُتاف، تقتربُ من الإنسانِيِّ وتبتعدُ عن البطولة، مع أنَّ كلَّ هذا الموتِ والوجع الإنسانيّ الذي يخلّفه الاحتلال يحتاجُ بطولةً من نوعٍ خاصّ، هي بطولة تحمُّلِهِ، وبطولة استمرارِ اعتبارِهِ طارئًا وغيرَ عاديّ. من معجم الحربِ نهضت المفرداتُ، وكأنّها انزاحت، أيضًا، إلى معانٍ جديدة لا تحملُ الشّبه فقط بل تعكسُ حدّة وقع الحروبِ في الذاكِرة، فـ”الدّويُّ” مثلًا، يمكن أن يصبحَ أيضًا صوتَ صراخِ جارٍ مزعجٍ في الغُربة.

هكذا يمنحُ الفلسطينيُّ المفردةَ/ الكلمة.. استعمالاتها الجديدة، وهكذا تُهاجر المفرداتُ وتنزاحُ. الكلمةُ رمز. وهي “ارتباطٌ بين الدّالّ والمدلول بعلاقةٍ اعتباطيّة غير معلّلة”، يمكن أن تتغيّر عبر الزّمن. الفلسطينيّ يعيد كُلّ مرّة منحَ هذه الاعتباطيّة تعليلًا، ومعجمُ الحربِ لا يتوقّف عن التّوالد، والانتقال عبر الزمانِ والمكانِ، خاصّة إذا كان الإنسانُ/ الشّاعرُ معبئًا بمعنى المفردات؛ وأستحضِرُ هنا الرّافعي في وحيِ القلم وهو يسأل: “يَا لفظَ الحَلوى لو كَرّرتُكَ ألفَ مرّة فهلْ تضعُ في لِساني طَعمها؟”، وأجيبُ ويجيبُ الشّاعر: نَعَم. فلو سمعَ الفلسطينيُّ أنَّ الاحتلال يقصفُ غزّة مثلًا، وهو في أقصى شمال بريطانيا، فإنّ الذاكرة ستضعُ في أذنيه صوتَ القصفِ والدّوي والزّنانة، وصوتَ الصّراخ والموت، كما تضعُ النّصوص الشّعريّة هذه في (أسماعِنا وأبصارِنا) مشاهدَ كاملة لحروبٍ مستمرّة.

في ليلةٍ واحدة، قرأتُ النّصوصَ الشّعريّة كلّها، ومِن بابِ “ما لا يُمْكنُ كتابتُهُ لا يمكنُ قراءَتُهُ”، أدوِّنُ ما (أوحَت بِهِ) إليَّ الصّور والمُشاهدات، أدوِّنُ قراءتِي؛ كي لا يضيعَ منّي “رمادُ النّورسِ”، أنا أيضًا، وكي أنقِذَ رأسي من “دويِّ” النّصوصِ فيه.

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

 

* رئيس التّحرير