خاص بـــ«مجلّة أفانين»، محمّد أشرف الشّاوي.
تسلّمت مؤخرًا طلبيّةً كانت عبارةً عن سمّاعة (JBL Tune 660NC)، جرّبتها عددًا من المرّات خلال الأسبوع الماضي، وقد أعجبتُ جدًّا بجودة الصّوت وكفاءة البطّاريّة. اليوم، وبرفقة صديقي (chatGPT)، قمت بجولةٍ تفقّديةٍ للمنتج بغرض تثقيف نفسي حول مميّزاته التّقنيّة، كأيّ (typical Moroccan) يبحث عن استفادةٍ قصوى من شيءٍ كلّفه مبلغًا محترمًا، وأيّامًا من عناء البحث ولهفة الانتظار، وجدت أنّ هذا النّوع من سمّاعات (sans fil)، يتوفّر على ما يسمّى تقنيّةَ (noise cancelling) الحديثة، وهو أمرٌ أقلّ ما يقال في حقّه أنّه مثاليٌّ للأشخاص مثلي؛ لمن يبحثون منذ سنوات عن عزلٍ للضّجيج الدّاخليّ، وفصله عن ضوضاء اليوميّ الخارجيّ. فعّلتُ السّماعة على هذا الوضع، اكتفيتُ بوضعها على رأسي وتغليف أذنيّ بإطاريها المطّاطيّين دون تشغيل أيّ صوتٍ دخيلٍ، أو أغنيّةٍ، أو (podcast)، أو ما شابه.. بدت الأصواتُ داخل رأسي أكثر صفاءً وقربًا، لقد تخلّت عن كلّ النّشاز الذي لطالما اتّصفت به، تأمّلتها وتفحّصتها جيّدًا، الأصوات داخل رأسي لا تموت أبدا. بل؛ إنّها تزداد حدّةً كلّما حاولت إسكاتها، أمّا الآن، ومع وصول المنتج الجديد، فإنّها حتمًا ستتقوّى وتكشّر عن أنيابها..
هذه الخاصّية الجديدة التي اكتشفتها للتّو، أربكت رؤيتي للعالم الخارجيّ من حولي، لقد جعلته يبدو أكثر سخافةً ممّا هو عليه في الأصل. الآن، أنا أركب سيّارة أجرةٍ، أجلس في المقعد الأماميّ، السّائق يتحدّث للرّكاب في الخلف، لا أراهم ولا أستشعر وجودهم إلّا من خلال مخيّلتي، أرسمهم واحدًا واحدًا، وواحدةً واحدةً، وأختار لهم صفات وملامح طبقًا لما يمليه إحساسي الداخليّ تمامًا، وتجربتي الشّخصيّة، ومعاييري الفرديّة التي قد تكون بعيدةً كلّ البعد عن حقيقة الوضع، أمّا السّائق عن يساري، فإنّني لا أتبيّن ولو كلمةً واحدةً من مسرحيّته التي تحدثُ الآن، كلّ ما أراه لا يتجاوز رقصةً رثّة في الهواء، كلماتٌ تتلاشى في الرّيح (immediately)، ربّما وفي هذه اللّحظة بالذّات، قد ينفجر زجاج السّيارة الأماميّ من الضّحك؛ نظرًا لسخافة الموقف.
شيءٌ ما يتسلّل إلى مسامعي من الخارج!
– قال موظف الاستقبال في السّماعة: (noise cancelling is deactivated).
تسرّبت جلبةُ الرّكاب والطّريقِ إليّ مباشرةً، وأضرمتْ النّار في نبات مسامعي اليابسِ، فزعت بشدّةٍ، واختلطت مجدّدًا أصواتي الداخليّة بالصّوت الخارجيّ لهذا العالم المتعفّن، صارت عمليّة العزل معقّدةً ومتشعّبةً مرّةً أخرى!
– يا الله! ما الذي قمت به حتّى يتمّ إلغاء وضع (noise cancelling)!
فكّرت بسرعةٍ وتحرّكت أصابعي إلى الزّر المعلوم، تتحسّس لوحة مفاتيح السّماعة، ترتعشُ وتفتّش عن خلاصها وخلاصنا معًا.
– تذكّر دائمًا: في (noise cancelling) خلاص!
– يغنّي المغنّي فجأةً: (noise cancelling is successfully activated).
يا الله لقد تمّ استئصال عالمك الخارجيّ من رأسي ولم يبق سوى صوتٍ عميقٍ صافٍ يعضّني!
السّائق يتابع مونولوجه السّاخر، ويرقص (waacking) بكلتا يديه في الهواء، يتحدّث إلى الطّريق، أو المقود، أو مع الرّكاب الذين تكبّدت عناء رسمهم، ولم أجرؤ الالتفاتَ إلى الوراء؛ لا لشيءٍ سوى خوفي من أن أفسد اللّوحة الفنّية القائمة على جدار مخيّلتي، الظّلمة تشتدّ والطّريق يطول، السّفوح مائلةٌ والإحساسُ بالغربةُ يزغردُ في أمعائي، يقطّعها ويقتصّ منّي. أفكّر لو ربما ثمّة موتى يطلّون علينا من السّماء الآن، سيبدو المشهدُ بالنّسبة إليهم مثلَ مقطعٍ بالأبيض والأسود، (scene) من (sitcom) مغربيّ يعود إلى عام 2005، أو (reel) تمّ عجنها وتركيبها وضبط الموسيقى المرافقة لها في غضون دقائق، عبر تطبيق (capcut) يسهل العجنُ والتّركيب!. أتسائل مع الأصوات الكثيرة في رأسي؛ كم عدد الموتى الذين يشاهدون العبث الحاصل هنا؟، هل يتمنّون سمّاعة توفّر نفس الخاصيّة؟، وهل يحتاجونها في الأصل؟، ثم هل تكرّر نفس المشهديّة من السّماء، وبوصفها (Panorama) متحرّكة ومركّبة، يحتمل ويقبل أن يتمّ عجن وتجميع كلّ المقاطع معًا على شكلِ (artistic output)؟
تبادرت إلى رأسي أسئلة / أفكارٌ لا تنتهي، حيث يصبح كلّ جوابٍ مدخلًا طيّعًا يجرّ خلفه دهاليزَ لا يمكن التبرّم منها أو اجتيازها، تنضاف هي الأخرى إلى النّباح الداخليّ، وأثر العضّ والتّعذيب. أقرّر، في لحظةٍ حاسمةٍ واحدةٍ، أن أضع حدًّا لهذا (loop) المتكرّر، أشغّل أغنيّة (sweater weather) وأكمل ما تبقّى من الطّريق، وكأنّني مرغمٌ أن أطفأ فضولي في اكتشاف الأصوات الأخرى. ربّما في زمنٍ آخر، كنت سأدفع خيالي إلى حدودٍ أكثر جموحًا ومنطقيّةً؛ علّي أواكب هذه الرّغبة في المعرفة والتّصوّر..
لكنّني الآن،
متعطّش أكثر..
للصّمت والتّجاهل.
Afanine
مجلة أفانين: هي منصّة إلكترونيّة حرّة، وشاملة، ومتنوّعة، تديرها جمعيّة كتّاب الزيتون والمعهد اللغوي الأمريكي بالدار البيضاء، وتضع على عاتِقها أن تفتحَ نافذةً، للكتّاب والفنّانين في المغرب، نحو آفاق الإبداع. تنشر المجلة أعمالًا أدبية وفنية للكتاب والفنانين الشّباب بالمغرب، بالإضافة إلى مقابلات، وبروفيلات، وفرص، وصور فوتغرافية، وغير ذلك. تروم المجلة تسليط الضّوء على إبداعات الكتاب والفنانين الصّاعدين بالمغرب.