ودّعتُ أمّي أيّها العالم

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، محمّد كبدانيّ **

(60)

– استيقظْ يا محمد، الأطفال جاهزون. لقد وضَّبتُ الحقائِبَ، ساعتانِ فقط تفصلاننا عن إقلاع الطائرة.

(1)

“نِبْغي نشوفك عُمري

ونخاف من الهدرة

وعلى جال الهدرة

أنا هجرت للغُربة[1]

إنّه آخرُ يومٍ لي في المغرِب، دخلتُ صالونَ الحلاقةِ كشخصٍ يستعدُّ لخطبةِ فتاة. صُوَر “الشاب حُسني” تُغَطّي جُدران الصّالون، لا بدّ أن الحَلَّاقَ مُدمِنٌ على أغانيه أيضًا. جلستُ على الكرسيّ لأبدو غريبًا عن نفسي كما العادةِ أمام كُلِّ مِرآة. مَن أنا؟ من هذا الذي لا يخجل مِن حلقِ شعرِهِ في بِلادِه الأم التي سيُغادِرُها؟ هل سأسمع أغاني “الشاب حسني” تتردَّدُ في صالونات الحلاقة الفرنسيّة أيضًا؟

  1. – بالصحة الكوبَّة سي محمد، مرّة مرّة ضربْ علينا دورة.

لِمَاذا يستمِرُّ العالَمُ في إرسالِ هذه الرسائل؟ هل أبدو مُمعِنًا في المغادرة لهذه الدرجة؟.

  1. – ضروري خويا عبد الرزّاق ماتخمَّمش!

قُلتُها مُبتَعِدًا لكيلا يتجاذب مَعي “عبد الرزّاق” أطراف الحديث عن “الشاب حسني” كما كنا نفعلُ دائمًا. مَشيْتُ باتجاه المنزِل لأخذ حقيبتي التي أعدَّتها لي أمّي، لأذهب إلى الحمّام الشعبي للحيّ، دخلتُ المنزلَ ولم تَقُل لي كما العادة: “ليوم عاد بان وجهك”، لقد شممتُ رائحةَ احتراقِ كَبِدِها، الأمرُ يبدو واضحًا في عيناها المُحْمَرَّتَانِ المُغرَورقتان بالدموع. كَبِدي تحترِقُ، قلبي يحترقُ أيضًا، صِرتُ أنقاضًا مُحتَرِقة، ألا يشتَمُّ أحدٌ احتراقي؟ لِمَاذا أبدو بكلّ هذا الصّمود؟ وما بال الدموع تمتنعُ عن الانسِكاب؟

كان الاتفاق مع “حمدون” أن نلتقي قرب منزلنا على الساعة الخامسة مساءً؛ لنذهب إلى منزله رفقةَ صديقي “عُمَر” الذي سيكون رفيقي في السّفر. ستون ألف درهم هو المقدار الذي طلبهُ “حمدون” من أبي مقابِلَ (التّهجير). اليوم سيغيبُ وجهُ أمي عن ناظِرَيّ، ستغيب كلماتها المحفورة في الذاكرة، اليوم سَأُوَدِّعُ أمي أيها العالَم.

قَدِمَتْ وبِيَدِها كيسٌ بلاستيكيّ وضعت به لترًا من الحليب، إضافةً إلى قطعةٍ كبيرةٍ من خبز الشّعير وعلبةٍ صغيرةٍ تحمِلُ قِطَعًا من الكعك الذي صنعتهُ أنامِلُها الطاهرة. لم أستطِع أن أكبح بحرَ دموعي عندما حَضَنتني أمي وكأنها ولدتني للتوّ ولم تُرِد أن تترُكَني وحيدًا في مواجهة المجهول.

– فوقاش غادي نولّي نشوفك أولدي؟

– غادي نرجع كوني هانية..

– فوقاش غادي ترجع، لمَّن غادي تخليني أولدي؟ عندي غير نتا فهاد الدنيا..

-…

-..

لقد كانت كلمات أمي بمثابة بنزينٍ يُسكبُ داخِلي..نحن نحترق يا الله، أكبادُنا تحترق، إنه ألمٌ قد لا نعود بعدهُ كما كنا قبله، إننا نحترق يا الله.

(3)

في منزله، بدأ “حمدون” باستعراض جوازات سفَرِنا المُزَوَّرَة، وبعض الوثائق المليئة بالطوابع الحمراء والإمضاءات…:

  1. ستذهبون باتجاه الناظور فطنجةَ، سيستقبلكم “علَّال” قرب المحطة الطرقيّة، ويُكمِل الطريق معكم باتجاه إسبانيا، لقد أخبرتُهُ مسبقًا بالتفاصيل، سنبقى على اتصال.

رمانا “حمدون” بهذه الجمل الشِّحيحة، مما زاد من ارتباكنا، لكن لم يكن لنا خيار لنا سوى الامتثال لتوجيهاته، نحن الذين أردنا أن نهجُرَ وطننا، لا يجب أن يكون لدينا ما نخسَرُه.

من وجدةَ إلى طنجةَ، لا أعلمُ لِم تبدو المدينتان صديقتان، كُلٌّ تَحِنُّ إلى الأُخرى. وصلنا إلى طنجةَ في تمامِ الخامسة صباحًا.

– أين “علَّال”؟

– لقد وصلنا لتوّ، يجب أن ننتظر قليلًا يا عُمَر.

يجب أن يحدثَ شيء، الأمور تمرُّ بخير، وهذا شيءٌ مقلقٌ..، لا يجب أن تكون الأمور جيّدة إلى هذا الحدّ.. خاصّة لأشخاص يغادرونَ وطنهم. لقد انتظرنا أربعَ ساعات، وكانَ أخبرنا “حمدون” ألا نتّصل بأيّ أحد تحت أي ظرف. بَدا “علّال” كشبحٍ قادِمٍ من المقبرة، كانت عظام وجنتيه تكاد تخترق اللحم من شدة نُحوله وإدمانه على التّدخين.

  1. عطيوني الباسبورات ديالكم وتبعوني

قالَها “علّال” وكأن مخزونَه من الكلام شحيحٌ جدًا.. وفي آخِرِه.

لقد مرّت الأمور بسلامٍ غريب، نحن الآن في الباخرة مع باقي المسافرين كأننا أشخاص ذاهبون في نزهة، تَبِعتُ “علّال” الذي اتخذ ركنًا قصيًّا من شرفة الباخرة ليدخِّن سيجارته بسلام، سألتُه:

– خويا علّال فين غادي نمشيو بالضبط؟

– ماتسوّلش بزّاف أمحمد…

الساعة الواحدة ظهرًا، لقد وصلنا إلى اسبانيا، كنتُ أنتظر أمرًا أسوأ من هذا، بل كنتُ أظن أنّنا لن نصلَ أبدًا، لَمْ أندَهِش لرؤيتي إسبانيا أوّلَ مرة، بدأ “علال” بالاتصال بشخصٍ ما بمجرد خروجنا من “ميناء ألخيسراس”،  بعد مرور ما يقارب عشرين دقيقة، قدِمَت شاحنة رمادية صغيرة تحمل بداخلها أربعة عشر مهاجرًا من بلدانٍ مختلفة:

  1. طلعو أ الدراري، كلشي راه مريكَل، الطوبيس غادي يوصلكم حتّى لفرنسا، الله يعاون…

قالها “علّال” قبل أن يتمتمَ ببضع كلماتٍ بالإسبانية مع السّائق ليغيبَ بعدها وسط الطرقات المزدحمة.

انسيابيةُ الأمور بشكل عادي وجَيِّد جعلَت الطريقَ تبدوأطول مما اعتقدت. لا أعلمُ لِمَ انفتحت أساريري عندما خطفتُ نظرةً من نافذة الشاحنة ورأيتُ الشرطة الإسبانيّة تشير إلى السيارة التي قبلَنا بالتوقف، كنت أريد أن يقوموا بتوقيفنا أيضًا، لا بدّ أن يحدث شيءٌ من هذا القبيل.. لكن يبدو أنّ خطة “حمدون” المُحكَمَة قد تكفلت بكلّ صغيرة وكبيرة.

نحن الآن في فرنسا، أدركتُ هذا من تغيُّر لغة السائق مع الشّرطة ومع المُراقِبين، كان يبدو مثلَ “فقيه” يتلو تمائِمَ على أسماعهم ليَدَعونا نمُرُّ فقط هكذا بكل سهولة، صدق من قال “الفلوس ديْر طريقْ فالبحر”، وصلتْ الشاحنة إلى المنزل الذي يُفترض أنْ نكتَريه هناك لنبدأ البحثَ فورًا عن عمل.

(4)

بدأنا في تكوين علاقات، أنا وصديقي “عُمَر”، مع بعض المهاجرين، بدا المنزل كسجنٍ متعدّد الغُرَف، تضم غرفتنا إضافةً إلينا، مُهاجِرَيْن آخرَيْن:”محسن” من تونس و”لخضر” من الجزائر. خرجنا في اليوم الموالي نحن الأربعة كفئرانٍ نتِنَةٍ تبحث عن شيءٍ تأكُلُه، قَصَدنا مقهىً مغربيًّا ذائعَ الصيت هنالك في ضواحي مدينة لِيْل.

في المقهى تقدَّمَ إلينا “حميدة”، وطلبَ لنا “برّاد أتاي مغربي بالنعناع”، أخبَرَنا أنّ لديه مجموعة سرية تعمل في تهريب وتوزيع العطور في مدينة “ليل”، وأنه يحتاج بائعين لترويج عُطُورِه. لقد وافَقْنا بدون تفكيرٍ أو تردُّد، يجب أن نقبلَ العَمَل لتسديد مصاريف الكِراء، ولكي نعيش في هذه الأرض التي ليستْ لنا. لا أعلمُ لمَ جلبتُ مَعي شهادة التكوين المهني الخاصة بي، وكأنني سأذهب إلى مدير شركةٍ ما وأقولَ له بكل جُرأة: “أنا قادِمٌ من المغرب وليس لدي أوراق، هذه شهادتي وأنا أبحث عن عمل..”.

بدأنا عمليةَ البيع، اتخذنا أنا وصديقي “عُمَر” المَخارجَ الثانويّة لمحطة الميترو “ليل بورت دي دواي” كمكان للبَيْع، كان أغلب الزبناء من المغاربة والجزائريين المهاجرين، وأيضًا القادمون من جنوب إفريقيا.

  1. ” Vos papiers s’il vous plaît!”

قالها لنا شُرطيٌّ بزيٍّ أسوَدَ يدعو للتشاؤم، يبدو أنّه لا يشبه “علال” في شيء، ياليتَ الشرطِيَّ كانَ “علّال”..

هناك في مركز الشّرطة، لم يكُن في صالِحِنا الإنكار بأنّ العطور مُهَرَّبة، لقد قُلنا كُلَّ شيء بكلّ ما أوتينا من فقدانٍ أمل. قام شرطيان بنقلنا في شاحنة سوداء إلى سجنٍ يبدو أنّه يقع خارج المدينة، فوجِئنا داخل السجن بوجود كلّ المهاجرين الذين يقطنون معنا بالمنزل، لقد لعنتُ نفسي؛ لأنّني تمنَّيتُ مرَّةً أنْ يحدُثَ شيءٌ يُعَكِّرُ هدوء وسلامَ هذه الرحلة نحو المجهول.

استمرَّت التحقيقات لمدة شهرٍ ونصف، كان عددُنا ستة عشر مُهاجِرًا، الغريب في الأمر أنهم لم يبخلوا علينا من الطعام والاستحمام، والأنشطة الرياضيّة داخل السجن، ربما كان هذا الأمرَ الوحيدَ الذي جعلني أتمسَّكُ بخيطِ الأمل الهزيل الذي تبقى لي. الأمر الذي يدعو للغرابة أيضًا هو أنّ الشرطة لم تدقق معنا بشأن ملف هجرتِنا، لقد انصَبَّ كل تركيزهم على مصدر العُطور، ومَن يقفُ وراء تزويدِنا بِها! هل هذه رسالة من السماءِ لنَعودَ أدراجَنا إلى الوطن؟

(5)

بعد مرورِ ثلاثة أشهُر من السجن والتحقيق، قَدِمَ شرطيٌّ إلى غرفتنا صباحًا وأمرنا بتوضيب حقائبنا من أجل إخلاء سبيلِنا، لقد تبيَّنَ أنَّنا أبرياء وأنَّ “حميدة” متورط في عملية تهريب سيؤدي ثمنها غاليًا، لقد أخبرونا أيضًا بأنّ المنزل الذي نكتريه بالمدينة هو بملكية غير شرعية لـ”حميدة” وسيتِمُّ حجزُه أيضًا.

أين نذهب؟ لا “حمدون” ولا “علّال” سيظهرانِ من العدم لإنقاذِنا، إنها اللحظة الفاصِلَة، إمّا إكمالُ الطريقِ وقضاء الليلة تحت جسرٍ ما إلى أن نصِلَ إلى وسط مدينة ليل لنبحث عن مأوًى، أو الاستسلام والبَوْح للشّرطة بأننا بلا أوراق ونريد العودةَ إلى أوطاننا.

مقطع من أغنية للشاب حسني[1]

** نشرت هذه القصّة ضمن المجموعة القصصيّة “الإقامة في المؤقت” والتي أنتجها المشاركون في النسخة الخامسة من مخيّم كتاب الزيتون للكتابة الإبداعيّة 2023