وميضُ الجَحيم: «الحُوز»

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، شيماء معدون

كانت حُلكة السماء غريبة جدًّا هذا اليوم؛ تضيئها خيوط من الشّهاب وومضات من الرَّعد، اجتاحتني رهبة في جسدي ولم أعلم ماهيتها كمن يترقّبُ حصول شيء، ثم ما لبثنا أن انتهينا من ابتلاع آخر لقمةٍ من عشائنا المتأخر، وآوى كل فرد منّا إلى سريره لأخذ قسط من الراحة، بسطت ذراعي الخائرتين وأغمضت عيني الناعستين؛ لأستسلم للنوم بعد أن ضغطت على جفني بأطراف أصابعي ومكثت في تلك الوضعية، لم تخلد أعضائي إلى النوم آنذاك ما عدا حَدَقَتَيَّ اللتين أسدلت الجفن المتدلي عليهما، شعرت برغبة الاختفاء والتحليق بعيداً مع جسمي الثقيل، بدأت أعضاء جسمي تنتفض بجنون وعشوائية كمريض الصّرع عندما تنتابه نوبة، لم آبَه بأيّ شيء، ولم أقوَ على فتح عينيّ وإيقاف النوبة التي تملكتني، تتناهى إلى سمعي أصوات، رضيعٌ يجهش بالبكاء، إحداهنّ تناجي ربّنا والعبد، أحدهم يحاول خلع الباب وإنقاذ عائلته، طفلٌ يصرخ متألمًا، عجوز ينادي بأعلى صوته على مفقوده ولهاة حلقه تروح جيئةً وذهابًا في هلعٍ وجزعٍ، تسَاوتْ المقامات قبل مُنتصَف الليل في حضرة هذا الزلزال، ودوّى صوتٌ قويٌّ في الأرجاء؛ كأنه انهيار لياجوراتٍ ومعالم الكون.

شعرت بنفحات غُبار تتسلّل داخل جيوب أنفي وأذني، وأبى الصوت أن يخرج من جوف حلقي، يبدو أنّه غارق في نومه أو تحت تأثير صدمته!

 أضواءٌ خافتة، صُراخ المارّة والعابرين، ظلامٌ دامسٌ حلّ بي، وأنا مُتصلِّبة في موضعي.

عائلتي! أين أنتم؟

لماذا لم يتفقّدني أَحدكُم؟

ما هذا بحق الله؟

لمَ لا أستطيع فتح عينيّ على سِعتيهما؟

شُلّت حركتي ولم يتلاشى هذا الكابوس الذي أنا فيه، لم تكن نوبةً أصابتني ولا جاثومًا زارني، كان شيئًا أكبر مني ومنك، كان وميضًا لإيقاظنا من الغفلة، ‏فتحتُ عينيّ على سعتيهما وحَملقتُ في الفراغ؛ ثانية، دقيقة، بضع دقائق. شعرتُ بالمكان يحاول ابتلاعي وامتصاص روحي المُلوّنة، كلّ شبرٍ يَودُّ التهامَ روحٍ من هذه الفانية، تيقّنتُ أنه لا شيءَ مضمونًا في هذه الدنيا، وأنها مسرحية وكلّ شيء قد ينقلب في ثانية؛ نحن في متاهة ضيقة.

أصبحنا في لحظةٍ نَكِراتٌ تحاول الاستنجاد ببعضها البعض، أضحى بلدنا طائرات «دْرُون» تًحلّق في الأعالي لطلب الاستغاثة، أمسَت ليلة «شتنبر» مُتضوَرة من الجوع والتشرد في شوارع الخريف، بات نسيمُ المغرب المنسيّ عاصفة من الغُبار والحَصى.

«شهداء الحوز، ستبقى ذكراكم خالدًة في صفحات التاريخ والوطن، وستبقى فينا ما حيينا، وفي ذكرى استشهادكم لا نقول سوى: رحمكم الله وأسكنكم جناته العُلا».