إدامٌ شهيّ لـ«الوساوِس»

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، شيماء طجيو

«استرخِي، واتّبعي التعليمات. استسلمي لهواجسك واسمحي لها بالسيطرة. عندما يصبح الأمر مرهِقًا، أعطيني إشارة. لكن حاولي الغوص في هذه الدوامة قدر استطاعتك».

أردفتْ بنبرةٍ تشي برقّةٍ تستبطن حنانًا وترفُّقًا متشابكَيْن، أو لعلني أعاند إدراكي بأنّها محضُ شفقة. أن أكون موضعًا للشفقة…نهاية متوقعة. أذعنتُ بإيماءة عابرة، رغم أن نزوع الامتناع كان يضطرب بداخلي. عبثًا حاولت اقتناص الهواء، غير أنّ الضيق اشتدّ حتى بلغ حدًا لا يُطاق، وكأنّ البشرية جمعاء تتشارك معي في استنزاف كلّ ذرة أكسجين في هذه الغرفة الضيقة. أطبقت جفنيّ بإحكام، فغمرني ظلام حالك، قَصِيٌ ورحيب. ابتلعتُ ريقي بصعوبة، محاوِلةً التخفيف من جفافِ حلقي الذي أخذ يتفاقم تدريجيًا. كان عجيج قلبي، الذي يضج في أذنيّ، يلتحص في صدري حتى بدأ جسمي يرتعش بشكل لا إرادي. وفي كل مرة، كنت أصرُّ على تذكير نفسي بالتمسك بالتعليمات فحسب. لكن، أين تلاشت الوساوِسُ الآن؟ تظل متربصة بي على الدوام، إلا أنّها تتقن فن التواري كلما سحبت نفسي إلى تلك الجلسات النفسية قسرًا. تستعصي على التحديد، وتستمتع بوضعي في فمها ومضغي بشراهة، لكنني سأغتبط عندما أمزقها بِنَهَمٍ أيضًا. فهي ليست الوحيدة في هذا المسعى.

غصت في أعماق ذاكرتي، أسترجع تلك النوبات التي اجتاحتني مرارًا، وكلما تعمقت أكثر، شعرت بتلك الوساوس الخبيئة تقترب مني، كأنني أصطادُها من قاع اللاوعي ذاته، فأنا أعرفُ كيف أجتذبُها، لأنني طُعْمُهَا المفضّل. استمريت على هذا الحال حتى انقضَّ عليّ المشهد فجأة. أرى جثماني الهامد، يستره كفن أبيض لا يظهر منه سوى رأسي المستقر بوداعة على ركبتيْ والدتي. يلتف حولي طفلاي، أسامة وسام، توأماي اللذانِ لم أفطمهما عن الرضاعة بعد، يجتذباني ببراءة، متسائلين عن سبب نوم أمهما المطول هذه المرة. يرددان معًا بصوتهما المبحوح الصباحي: “ماما! ماما!”، فيرضخ زوجي مجيبًا بصوت متهدج: «ماما في مكان أفضل» ثم يسحبهما إليه. تختلط التعازي في جنازتي بهرج غير محتمل، يصعق رأسي، فتتشوش الرؤية، حتى أدخل في نفس الظلام الحالك مجددًا. أحاول أن أعطيها إشارة، لكن الكلمات تتخلى عني فلا أستطيع أنْ أتلفظ إلا بصَرّة شديدة، تزامن معها انبثاق ضوء براق فوق رأسي، ففتحت عينيّ، أو لم أفعل، لستُ أبصر غير البياض على أي حال.

أتلمس وجهي، مبللًا بالكامل. بدأت رؤيتي تتضح بشكلٍ تدريجي، وبدأتْ الغرفةُ تنقشع شيئًا فشيئًا، كراسي رمادية كلاسيكية، وشجيرات صغيرة تُحلق حولها رائحة القهوة العابقة. نظرت للقابعةِ جانِبي، ولم أميّز منها غير مئزرها الطبيّ وشعرها الذهبيّ المنسدل، إذ كانت مشغولةً بالتحدث للشخص على يسارها: «لابدّ أنها تمرُّ بالكثير حقًا، كان عليكما القدوم في وقت أبكر».

بدأت أرتفع ببطء من على ذلك الكرسي المكبِّل محاولة استيعاب ما يحدث حولي حتى صدح صوت مألوف مجيبًا بتشبيب لم أسمعه منه إلا قبل زواجنا: «تمامًا، لو علمت أنّ طبيبةً بجمالك هي من ستتكلّف بالعلاج، لكنّا شدَدْنا إليكِ الرحال منذ زمن بعيد. أتعلمين؟ لو كنتِ في عصرِ قيس وليلى، لكنتِ أنتِ بلسم قيس وترياقَه».

من توقعت أن يكون على أي حال، ليس إلا ذلك الشاعر الوَخْم. أحب كل شيء في كونه شاعرًا، إلا أنه وعلى عكس مَن يشاركونه الحرفة، قد رثى العشرات من قبلي، والمئات خلال حياتي، وسيرثي نساء الأرض من بعدي. رفعت رأسي بمساعدة الطبيبة، ثم تلطَفت بربتة على ظهري، قائلة: «سيّدة فاطمة، إنها حصتنا الأولى في العلاج السلوكي المعرفي، أخبريني، ما الذي رأيتِ بالضبط؟ ساعديني في التعرف على ثغرة المرض لنردعه، وسواس الموت قابل للعلاج، تمسّكي بنفسك وأهلك حتى النهاية، وأعدك أن الأمور ستؤول للأفضل بدءًا من هذه الجلسة».

أمطرت عليها ما شهدت لما يقارب الساعة، فجففت بدورها ذلك الغدير بوصفِ كبسولات حقيرة. ماذا كنت أنتظر منها أن تفعل، ليستْ إلا كالبقية. عدتُ أدراجي للمنزل محمّلة بخيبتي العاشرة، وأزيدها حليلي فأفقد قدرة عدّ خيباتي على أصابعي. حلك الليل، ابتلعتُ كبسولاتي، يرنُّ هاتفي، والدتي تتّصِلْ، لن أجيب. يستقر جميع الأطباء على أنني معافاةٌ إلا مما أعاني من وسوسة، لكن الخوالج عندي تغلب ظواهر الأشياء. أشعر أنني سأموتُ قريبًا، قريبًا جدًا. فما الجدوى من جعل والدتي تعتاد وجودي حولها؟ سأرحل على أيّ حال، فلماذا أجعل رحيلي شاقًا عليها؟ ما النفع من أن أصلح الذي بيني وبين زوجي؟ سنختفي من واقع بعضنا البعض. ولما ألتصق بصغاري؟ لا أريد أن يتعلقا بي فيؤلمهما فقدي. ما الطائل من تكبّد عناء صناعة اسم لي على سطح هذه الأرض وأنا على مقربة من جوفها أكثر؟ لا ربحَ وراء رغبتي في العيش، فلماذا أتكبّد مشقّة أي شيء؟ ما الذي يمكن أن أخسَرَه بعد الآن؟ لقد فقدتُ كلَّ ما كنت أطمح إليه، وتخلى عني الجميع، بما فيهم نفسي. حتى عضلاتي استكانت ورضخت، لتبقى الخلية الوحيدة التي تواصل نشاطها في هذا الجسد هي تلك التي تولّد أفكارًا أرفضها، وهي، بطرق غريبة، الوحيدة التي لا تزال متمسكةً بي رغم كلِّ شيء. أليس مما يدق أطناب العقل أننا لا ندرك قيمة الأشياء التي تتمسك بنا، بينما نركض وراء ما يبدو بعيد المنال؟ ما أعجبَ أمري، كيف لي أن أتصور أنني لا أعي قيمة هذه الوساوس التي أجعلها تقتات عليَّ يوميًا؟ أليس كافيًا أنّني أسدُّ جوعها كلّما أحسّت بالسّغَبْ؟ مليئة بالغرابة أنا.

أعود برأسي للوراء، مغمضة العينين، تتناقض الضربات في صدري مع حالة سكوني الشاردة، تتهاوى قطرات العرق عليّ كبلل مطر، فأذعن، أختنق، تدور الأرض من حولي، أتساءل إن كانت ستشفق عليّ وتنشق فتبتلعني، أطلق نفسي لتلك الرّجَفات، علّها تكون الأخيرة، علّها تكون ليلتي الأخيرة.