عن «رحلةٍ تفيضُ بالوداعة»

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، رميصاء وعليت

(1)

العزلةُ خيرٌ لمن أراد الخيرَ، ومَنجاةٌ من كل مَهواة، ومعراجٌ قويمٌ يصَّعَّدُ عليه صاحبُهُ فيرقَى به إلى ما يتوقُ في قرارةِ نفسه، وما يتطلَّعُ إليه طَرْفُه، ويصبو إليه جَنانُه، صَبْوَةُ الآمِلِ إلى لقاءِ أمله، وحسْبُ مُنزوٍ أن يسلَمَ في هذا الزمان الذي صار فيه الناسُ أطيافًا عابسةَ الوجوه، وأيامُه متشابهاتٍ لا شيءَ يُسعِدُ فيها ولا يَسُرُّ. وهي رحلةٌ تفيضُ بالوداعة، وأحسنُ ما فيها السلامُ من هذا العالم، يجمع فيها المرءُ ما تفرَّقَ منه، ويرى نفسه في مرآةٍ صادقة، ويلم شَعْثَ أموره المبعثرة، ودخائلَ أحواله المتناثرة، ويأسوا كِلامَهُ بنفسه فتنقشع همومُه. ثم هو بعد ذلك لَمُدرِكُ الخَبْءَ الدفينَ في صدره، والسرَّ الذي لطالما انطوت عليه جوانحُه، وقد كانَ يمضي أيامه ولم يأبه له، وربما لم ينقِّبْ عنه، لكنه فيه ثَمَّ كامنٌ، وكلُّ إنسانٍ ذو سرٍّ فإذا بان له أقامَ نفسَه مَكانَها الملائم؛ يقول بعضُ «المتصوِّفة»: “صاحبُ السرِّ لا بد أن يظهر يومًا ما”. وإنّ غايةَ ما تريدُ النفسُ الاعتدالَ والاطمئنانَ وصلاحَ الظاهر والباطن، ومبعثُ ذلك كله اعتزالُ ما يَعتاقُها، فما حَمَلها عليه إلا اعوجاجُ طُرِّ ما حولها، وكثرةُ السبل الميلاءِ التي سلَكَت.

(2)

لا يَهجعُ رأسي حتى تُثقِلَهُ الأفكارُ وتسافرَ فيه التساؤلات كما تسافر الشُّهبُ في أحشاء الظلام، وقد بِتُّ أمنحُها ما يُزيحُها فما تريد عني انفكاكًا ولا هجرًا. وبينما يؤرِّقُ الليلُ أجفانَ عيني، ويعتلجُ في صدري الهمُّ المَرير، تباغتُني تساؤلاتٌ شتَّى قد جِيءَ بها لأصطلحَ لها الأجوبةَ ريثما يغشاني السُّبات. ولعلَّ أكثرَها طوافًا بخلَدَي هو ذا: أَيغدو ما رجوتِ سُدى، ويروحُ ما صنعتِ هباءً؟ فيخطُرَ لي هذا الجواب: كلّا، وهيهات يَذهبُ ما عكفْتِ عليه، أظننت أنك واكف بك الظن لتنتهي بكِ نفسُكِ إلى هذه الظُّنون؟ أم حسِبتِ أنَّ نَبَأً طاويًا عُقبى اصطبارِكَ وسعيكِ لن يأتِيَكَ؟ ليس عليكِ إلا أن تطمئني فالله يُبصرُ حالك ويراه، ومتى كان منكَ التوكُّلُ عليه كفاكِ العِثارَ، وجنَّبَكِ مواضعَ التِّيهِ والهَفَوات، وحسبُكِ أنك تحاولين.