مُحاولة تقديم

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، مهنّد ذويب.

*مقدمة الشّق العربي للمجموعة القصصيّة “الإقامة في المؤقت” والتي أنتجها المشاركون في النسخة الخامسة من مخيّم كتاب الزيتون للكتابة الإبداعيّة 2023*

لقد “عَبَروا البحرَ ومَشَوا على الماء”. كنتُ واقفًا أنظرُ إليهم مثلَ قاربٍ على ضفّة “أبي رقراق” بالرّباط، أنظرُ لرحلاتهم الضاجّة بالأفكار والأسئلة العنيفة عبرَ المتخيَّل العميق الخصب، أنظُرُ مباشرةً إلى كائناتٍ من أصوات، ثمّ إلى صور ومشاهدَ.. في أذهانِهم كيفَ رسموها بعنايةٍ.. بقلمِ الرّصاص أولًا ثمّ بالأزرقِ البحريّ والألوانِ، قبل أن تصبحَ الألوانُ قصصًا، وقبلَ أن تصبحَ القصصُ بشرًا يركضونَ بيننا الآن، بعدَ أن “نفَثوا فيها مِن روحِهِم”: المَعنى.

“الآنَ بحرٌ.. كلُّه بَحْر

ومَن لا برَّ له..

لا بحرَ لَه

والبحرُ صورتُنا؛ فلا تذهَبْ تمامًا”

محمود درويش

ليسَ غريبًا أنّهم ساروا (معًا) في الزُّرْقة؛ فالبحرُ كنايتُنا الدائِمة، لأنّه/ كأنّه الوجهُ الآخَرُ للصّحراء، فكانَ أن حضَرا (البحرُ والصّحراء)، بصوَرٍ مكثّفة في المنجزِ الأدبيّ العربيّ أو (المكتوبِ بالعربيّة)، وهما مجازُ التيه والتّرحُّل والمجهول والتّوهُّم. وليسَ غريبًا أنّهم اتّخذوا من (عبورِ) البحرِ مجازًا لكلِّ عبورٍ وهجرة؛ فـ”قوارب الموتِ” التي تتكسّرُ قبلَ الضفة الأخرى للمتوسّط أصبحت خبرًا يوميًا، والحربُ (بجميعِ أصنافِها) تحدِّق وجهًا لوجه في كلّ واحدٍ منّا، والمتوسِّطُ، فاتحًا ذراعيه، يستقبلُ آلافَ الغرقى (المحتملين).

ثلاثة عشرَ مشاركًا ومشاركةً، ينظرونَ إلى الأشياء من زواياهُم الخاصّة، يكتبونَ (تجريبَهم) بطريقتهم الخاصّة.. بالعربيّة والدارجة. كنتُ أتتبّع مواطن الدّهشة في نصوصهم، وأنا أبحث عن تعريفهم البسيط والعاديّ والخاصّ لأنفسهم وللوطنِ وللمؤقّت، أشياءُ بسيطةٌ وعاديّة وغير مُنْتَبه إليها، هي البلاغة الجديدة لهذه المرحلة الهَشّة من عُمر العالم.

كانَت رحلةً مربِكةً ومرتبكة، كُنتُ/ كُنّا نحاول فيها أنّ نحذفَ معنى كلمة المؤقّت من العُنوان، وأن نثبِتَ معنى الإقامة، بإثرٍ، “ليسَ كأثر الفراشة” بل أكثر وضوحًا،.. ليسَ سهلًا أن يُمحى أو يزول، بأثرٍ (موشومٍ) في الذّاكرة، بأثرٍ كانَ يحاولُ، ألّا يُخيِّبَ أفقَ انتظارِ أحدٍ، وعلى الأقل وبالنّسبة لي، فقد نجح.. جدًا. كنّا نحاوِل أن نسحبَ مفردة الهجرة في علاقتها الاعتباطيّة بمعناها، لنضفي عليها معانٍ جديدة، نبتكِرها معًا، ونفكّر بالهجرة من داخلها. الهجرة قضيّة؛ وربّما منذُ أنْ فَقَدَ آدمُ (وطنه الأوّل)، فكانَ النّزولُ إلى متاهة المكان، وكانت الهجرة..: “انفلاتاتٌ داخلَ تأسيسات”، تجاوزت أزمة المكان/ الوطن إلى هجرة اللّغة والدّين والسّؤال والذات والاختيارات والمبادئ والقيم الاجتماعيّة.

لم يكن أحدٌ بحاجةٍ ماسّة لقاربٍ يهديه أو يدلُّه. ومع هذا؛ فإنّ القاربَ الواقفَ، متواطئًا مع الموجِ الخفيفِ، كان يحاولُ أن يدفعَ الطريقَ نحوَ الوصول. قصدُ الطُّرُقِ الوصول. وكانَ أنْ وَصلنا، كلّنا، بأشياءَ جديدة نَبَتَتْ أو نَمَتْ داخِلنا، وأشياءَ “ناقِصة منّا” تركناها كهديّة تذكاريّة (Souvenir) في نفوس وقلوب وخواطِر بعضِنا البعض. أتركُ للنّصوص، الناجية من المؤقّت، أن تتحدّث الآن بنفسها، وعن نفسِها.

مهنّد ذويب، أغسطس (آب)، 2023