«تغريبة القافر»: الماءُ بطلًا في غيابه وحضوره

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، شيماء قويون

“مَايْ .. مَايْ”. تتكرّرُ هذه العبارة كَلازِمةٍ في الرّواية، يصرخُ بها الطفلُ «سالم» واضعًا رأسه على الأرض مرخيًا سمعه إلى جوفِها. تقفُ مُندهشة أمامه «كاذية بنت غانم»، السّيدةُ التي تكلّفت بتربيته واختارت له من الأسماءِ «سالم» بعد أن سَلِمَ من الموت بطريقةٍ غريبة حين أخرجته هي نفسها من بطنِ أُمّه التي ماتت غرقًا في البئر، حينَ رمتْ نفسَها فيه استجابةً للأصوات التي تُناديها. يكبرُ الطفلُ «سالم» وصوتُ الماءِ يناديه، ويعيش حياته مُقتفيًا أثره، باحثًا عن منابعه وقنواته ليصيرَ بذلكَ «القافر» بعد أن ذاعَ صيتُهُ في القُرى والأماكن البعيدة، فصار الناس يأتونه طلبًا للمساعدةِ في اقتفاءِ أثر الماء، في الأماكن التي احتلّها الجفاف وأنهك الجوعُ سكّانها.

روايةُ «تغريبة القافر»، (لكاتبها العُماني زهران القاسمي، أتَتْ في 228 صفحة من القطع المتوسّط، وصدرت دار ميسكلياني. وهي الرواية الحائزة على جائزة البوكر لسنة 2023)، ليستْ روايةً عن الماءِ فقط، وإنْ كان في رأيي هو بطَلَها بالتناوب مع «القافر»، ذاكَ أنّ الماءَ في الحكاية له دورٌ وتأثير في مجرى الأحداثِ وتطوّر الشخصيات، وحتى في حبكة القصّة. لكنّها روايةٌ عن الخرافات التي تَنشَأ قِصصًا عادية تحدُث لأشخاصٍ عاديّين، لكن النّميمة والألسن التي تتناقلها تُضخّمها لتصير أساطيرَ يمتلك أبطالُها قوى خارقة، ما يجعلهم منبوذين أو أشبه بمخلوقات غير طبيعية. هي أيضًا روايةٌ عن علاقة الإنسان بالأرض والطبيعة، عن الجبال والأشجار والصخور والسّماء بكلّ تقلباتها. وعن الغُربة التي قد يشعر بها المرءُ حين لا يجدُ مَن يفهمه وسط أهله وعشيرته.

تتداخلُ قصصُ أهلِ القرية، وكلُّ قصّة أغربُ من الأخرى، لكنّ لغة الكاتب تتدفق كمياه مُنسابة فلا تجعل من الحكي مُملًا ولا تختلطُ على القارئ كلّ القصص. بأسلوبِ حَكْي مُشوق، تجذبُنا الرواية منذ صفحاتِها الأولى حتى فصلها الأخير الذي يسلُب فيه الكاتب أنفاسَنا بمهارةٍ ونحن نتتبّع محاولاتِ النّجاة والبقاء على قيد الحياة في ثنائيّةٍ عجيبةٍ جعلت من الماء رمزًا للعيش والفناءِ في الوقتِ نفسه؛ ليصيرَ غيابُه القاحلُ مثلَ حضوره الفائضِ: مميتٌ في كلتا الحالتين.

“الدرب الطويل، يحتاج إلى الحكاياتِ حتّى يَقْصُر”.

يستعين سُكّان القرية التي تدور فيها الأحداث بالقصص، يُلوِّكون بها ألسنتهم العطشى للمياه، ويقتاتون بها ليملؤوا أجوافَهم الجوعى. لكنْ أكانَ لهم شيءٌ آخر يقومون به؟ (هم الذين يسكنون فضاءً قرويًا صحراويًا قاحلًا، يتشابكونَ في طريقةِ العيش والحياة، يعتمدونَ في نمطِ عيشهم على الزراعةِ وتربيةِ الحيواناتِ والعمل اليدويِّ الذي توفِّره هذه القطاعات، بعيدًا عن تفاصيلِ المُدُنِ الكبيرة ومشاكلها المختلفة ومِهنها وحِرَفها). إذن؛ كأنَّ الكاتب ذهبَ صوبَ هذا الفضاءِ لينتصرَ له، ويقدِّمَ عن طريقه قراءة «سوسيولوجية»، ويٌقرّبَ القارئ من هذه العوالم التي يجهلُها عادةً، خاصّة وأنّ مدونة الرواية العربية بشكل عام تذهب صوبَ عوالم المثقف والطبقات المتوسّطة والأساليب الحياتيّة الباذخة، وتتناسى في كثيرٍ من الأحيان عالم البسطاء: كلُّ واحدٍ منهم قافرٌ في قصّته، يقتفي فيها أثرًا لما يروي عطشَ روحه.