«كي تتصالَحَ الجُثَثُ مع الحفّارين».. مقتطفات شعريّة

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، مقتطفات شعريّة لـ د. عزيز أزغاي *

(1)

الأشياءُ لا تعرفُ نهاياتِها:
الألوانُ، الأشكالُ والحركات.
كلُّ شيءٍ يضيءُ عتمته
في ليلٍ بلا صداقات.
وحدَها يدُ الرّسام،
حارسةُ الألغام
في حقولِ القَصَب،
تزرعُ الأجنحة
في أقدامِ الراقصين.
(2)
منذُ قُرُونٍ
وأنَا أحْمِلُ رَايةً بيْضاءَ
فَوْقَ مَقابرِ التَّجْربةْ،
أُلوِّحُ بِها لليَأْسِ
مِثل ثُقْبِ يَنْزِفُ
عَلى هَواهُ.
رَصِيدي منَ الجَسارةِ أَتَتْ عليْهِ فئرانٌ
بِلا عددٍ،
صِرتُ رَخْوًا وبِلا أَطْرافٍ،
وكُلّما فَكّرتُ في التّوْبةِ
تَذَكّرْتُ كَمْ هِيَ جَسِيمةٌ
كُلُّ هذه الغِبْطَةِ.
أنَا هُنا مُنْذُ الجَليدِ الأوّلِ،
الطَلْقَةٌ المُبْهَمةٌ
في مُروجِ الفَراغِ.
كُلَّ يَومٍ أُرَمِّمُ خَسائِري
في كِتابِ الصّدَاقَاتِ،
وفِي اليَومِ التّالي
أَعُودُ إِلى حَيْثُ يَسْتَريحُ الرَّمادُ
مُكَلَّلاً بِاللَّظى.
(3)
صباحات:
صباحُ الألمِ أيّها الغرباء.
صباحُ التّكهناتِ والأوقاتِ الصعبة.
صباحُ العرقِ الحارِّ الذي يتصبَّبُ
على الياقات.
من أينَ تأتي الريحُ بكلِّ هؤلاءِ العبيد،
بهذا الضجيجِ الذي يشلُّ الأطراف؟
بالتعب الذي يتوسَّلُ عرباتِ الحفّارين؟
كلُّ السائرينَ نحو مناجمِ القناعات
تبلبلتْ أفكارُهم بأنصافِ الأجوبة،
لا شيءَ تغيّر في جداولِ الحساب.
الأيامُ القادمةُ على مُهرةِ التعب
ستنضجُ كسابقاتِها في رصيدِ الفشل،
مجردُ إيقاعٍ ينبعثُ خائرًا
من كمنجاتِ المتسوّلين.
نفسها فكرةُ الأعمى عن مقاسِ الخطوة
تتكرَّرُ على الجادّات،
قانعونَ وقُطّاعُ طُرُق،
كلُّهم ورثةُ أورام في أرصدةِ الخيبة،
كلٌ يُغني لليلاه
بصوتٍ مبحوح.
من أينَ يتسرّب كلُّ هذا الخَبَبْ
إلى توسلاتِ الغرقى؟
من أينَ تقطُرُ هذه السماء
بأسيدِ الملامات.
صباحُ الأسئلةِ المُرّة
على الياقات،
صباح الأوقاتِ الصّعبةِ
أيّها الغرباء.
(4)
منذُ متى وأنتَ تنتظرُهم
على نواصي الغابات،
طيّعًا
ودودًا
ككلبٍ بلا أسنان؟
كنت تبدو مثل قرصانٍ
تجاسَرَ عليه الصدأ
وصارَ كلُّ ما يفعله
ينساهُ على اليابسة..
الأوشام، العضلات
وناب الفضة..
كلُّها من الماضي،
مجردُ تذكُّرِ تتعتِعُهُ الكاسات.
حيلتكَ في استدراجِ الجمال
كانت ارتماءةً باهظة
في بضاعةٍ لا تؤكَلُ،
ارتجاجًا يغطّي الهدوء
الذي يكذب.
هل تذكرتَ الآن رغوتَهم
في الأوداج،
والجُملَ المشفرة
تحتَ اللسان،
والغزلَ الذي يشبِهُ
نشيدَ قاطعِ الأشجار؟
هل تذكرتَ الأصابع
وهي تنزلُ في الطيبوبة
مثلما يضحكُ سكينٌ
بلا ندم؟
وهل تذكرتَ الأنفاس،
كلّما رميت حجرًا في الغيم
نسيتَ كم هي قليلةٌ
كلُّ هذهِ الرئات؟
أنا رأيتُ ذلك
ولم أنسَ،
حين كنت تنتظرهم على النّواصي.
أصدقاؤك الرائعون
الذين لا تحبُّهم!
(5)
القيثارة..
آلاتُ النفخ..
والكمنجات..
إنها كلُّ ما يحتاجه المعزّون،
كي تتصالَحَ الجُثث
مع الحفّارين.
بضعُ أصواتٍ في خلفيةِ المشهد
وباكيات تهجنَّ الصدى،
هو ما جعلَ الموسيقيَّ
يحفر عميقًا في الآلات.
بعد قليل سيذهبُ المتفرجون
إلى المقاهي
تسبقهم طاولات النرد
وموسيقى الهواتف
والإشاعات.
لكلٍّ صوتُه في رسمِ اللّقطة.
(…)
ثم كانت الجثث تزيح الأكفان عن المشهد،
لترى وجوهَ القَتَلة.
 * شاعر وتشكيلي مغربيّ