خاص بـــ«مجلّة أفانين»، أحمد لرگو
كلما تذكرنا شخصًا عزيزًا فارقنا، واستحضرتنا الذكريات التي تجمعنا به، نجد أنفسنا لا نرى فقط ملامحه أو لحظاتنا السعيدة معه، بل نستشعر أيضًا حكمًا ودروسًا عميقة تحيا فينا بعد غيابه. هكذا هي ذكرياتي مع والدي رحمه الله، الذي كان وجوده في حياتنا نبراسًا يضيء دروبنا. قد نجهل قيمة الأشياء والأشخاص في حياتنا حتى يختفوا فجأة، لكنَّ مرور الأيام، لا محالة، يضعُنا أمام مكانتهم التي لا يمكن أن تمحى من قلوبنا، والآثار التي تركوها فينا.
«القرار»
ولدت في حي شعبي قديم، «المدينة القديمة»، الذي يحمل بين ثنايا أزقته تاريخًا وحضارة، وهو المكان الذي يرهف فيه الفكر وتستنير فيه الروح. كان حيًّا يعكس ملامح الماضي العريق، حيث أسواره وجدرانه شاهدة على ما مر بها من أحداث. لكنَّ الأوضاع الاجتماعية داخله، جراء الإهمال المتزايد، كانت تقول عكس ذلك، فقد تحول إلى موطن للكثير من الظواهر الاجتماعية التي تهدِّدُ بُنية المجتمع: من الجريمة إلى بيع المخدرات وارتفاع معدلات السرقة. ومع مرور السنوات، تفاقم الوضع حتى أصبح الحي مكانًا مليئًا بالتهديدات التي تطال الأمان الشخصيَّ للأفراد، ما جعل سمعة المكان تتدهور.
استمر الوضع على هذا النحو لسنوات عِدّة حتى أصبح تهديدًا حقيقيًا لحرمة البيوت والأُسَر. وبدأ هذا الوضع يقلق أبي، فقرَّر مغادرة الحي. كان مرتَّبُهُ لا يسمحُ له باستئجار منزل خارج أسوار الحي، لكن في يومٍ من الأيام، ونحن مجتمعون حول طاولة الغداء، أخبرَنا بقراره: إنّنا سنغادِرُ الشهرَ المقبل. دُهشنا جميعًا بهذا الخبر الفجائيّ، وخيّم الصمت على الجميع، بينما اكتفت أمي بالنظر إليه وعيناها تتحدثان بأكثر مما تستطيع الكلمات أن تعبر.
بعد لحظات من السكوت، توجهت أمي إلى المطبخ لتشرب الماء، فوجدتُها تعاتبه قائلة: «كيف قررت مغادرة الحي دون أن نتشاور في الأمر؟ هل رغدت لك الدنيا ونحن لا نعلم؟ أم أنك تريدنا أن نموت جوعًا في مكانٍ آخر؟» توقّف أبي عن الحديث، وظلّ صامتًا يحدق فيها، غير قادر على الرد. تجمدت الأوضاع في البيت، وأصبح الصمت ثقيلًا، كما لو أنه يتحدى أي كلمة قد تقال. تطلب الأمر أسبوعًا كاملاً لنتقبل هذا الخبر، وكان هذا الأسبوع من أسوأ أسابيع حياتي، حيث كلّما تجولت في أزقة الحي، أو بدأت ألعب مع أصدقائي، كنت أتذكر أن هذ الأيام هي الأخيرة في هذا المكان، فيتدفق الدمع في عيني من شدة تعلقي بالمكان والذكريات التي يحملها.
وكانت اللحظات التي قضيتها في تلك الأزقة تتخلُّلها أفكار ومشاعر مختلطة؛ كيف لي أن أترك كلَّ ما يعنيني؟ كيف لي أن أتحمَّل فكرة مغادرة الأصدقاء والحي الذي نشأتُ فيه؟ في أعماق قلبي، كنت أعاتب أبي: «كيف لكَ أن تحرمني من طفولتي، ومن أصدقائي، ومن الحيِّ الذي كان عالمي الصّغير؟ وماذا لو بقيَ الحالُ على ما هو عليه؟ هل ستكون حياتنا أفضل في مكان آخر»، وبينما كنت أحمل هذه الأسئلة في نفسي، كان أبي، بحكمته العميقة، يقرِّرُ في صمت. ولم أكن أفهم حينها أنّ ما يفعله هو من أجلنا نحن، من أجل مستقبلنا. وهو ما سيظهر لي لاحقًا بوضوح.
«الانتقال إلى عالمٍ جديد»
في اليوم الذي انتقلنا فيه إلى الحيّ الجديد، كنت في السادسة من عمري، ممسكًا بيد أمي التي كانت تبحث عن إيجار شقة في حي يختلف تمامًا عن حيّنا القديم. كان هذا الانتقال بمثابة بوابة إلى عالم جديد، عالمٌ مليء بالغرابة والاختلاف. رغم صغر سني، ومنذ الوهلة الأولى التي دخلت فيها المجمّع السكنيّ الجديد استطعت أنْ ألحَظَ الفوارق؛ كانت المباني مرتبة، والأزقة نظيفة، وكأنها صورة طبق الأصل من «أحياء الرّفاهية». أمّا الأطفال في الحي الجديد، فكانوا يرتدون ملابس أنيقة ومتناسقة، بعيدة كل البعد عن البساطة التي كنا نعيشها في حيّنا القديم.
كنت أراقبهم من بعيد، وأرى كيف يتحركون بثقة وأناقة، بينما كنت أشعر في أعماقي بشيء من الغربة. شعرت أنني لا أنتمي إلى هنا، شعرت كأنني ضيف في هذا المكان اللامع، مختلف تمامًا عن الحي الذي نشأت فيه، السيارات كانت تملأ الشوارع بشكل لا يصدق، وتكاد تصدمني ألوانها اللامعة التي لم أعتد رؤيتها.
كانت هذه التغيرات الصغيرة تشعرني وكأنني أعيش في عالمين مختلفين. ومع كل لحظة، كان يتبادر إلى ذهني سؤال لا يغادرني: «هل سأستطيع التكيُّف مع هذا العالم الجديد؟» كان الفارق كبيرًا بين طريقة عيشنا في الحي القديم وبين ما رأيته في هذا المكان الجديد. لكن رغم الغربة، كان في داخلي شيء ما يحثني على التكيُّف والاندماج، رغم أنّ الأمر لم يكن سهلًا في البداية، فقد كنت أشعر أنني أفتقد الكثير: أصدقائي، ألعاب الطفولة، تلك الزوايا التي عرفت فيها أولى خطواتي.
لكن الزمن كان يحمل لي دروسًا لم أكن أعيها حينها. ومع مرور السنوات، بدأت تتسع دائرة وعيي، وإدراكي للذات والمحيط، ورؤيتي للمجتمع حَولي. وبعد فترة طويلة، عدتُ إلى الحي القديم لأزور المكان الذي عشت فيه طفولتي. كان شعورًا غريبًا، مزيجًا من الحنين والصدمة في آنٍ معًا. التقيتُ بأصدقائي القدامى، الذين كانوا يشكلون جزءًا كبيرًا من حياتي في ذلك الزمن، وكانت المفاجأة الكبرى هي ما رأيته: معظمهم قد انزلقوا إلى حياة الجريمة والمخدرات، وأصبحوا جزءًا من دائرة مدمّرة لا مفرَّ منها. كان بعضهم قد دخل السجن، وآخرون أصبحوا أسرى للإدمان، لا يعرفون كيف يخرجون من تلك الدوامة.
تلكَ اللحظة، أدركتُ كم كانت تضحية والدي في مغادرة الحي تلك لحظة فارقة في حياتنا. كانت خطوةً نحو النجاة، ليس فقط من بيئة غير آمنة، بل من طريق قد يؤدي بنا إلى مصير مشابه لمصير أولئك الأصدقاء. بفضل الله، ثمّ بفضل اختيار والدي الذي لم يكن يتوقعني أن أراه في ذلك الوقت، نجونا من هذا الانزلاق، ووجدنا أنفسنا نعيش حياة مختلفة. لقد كانت تلك التجربة بمثابة درس عملي في أهمية الخيارات التي نصنعها، حتى وإن بدت صعبة في البداية.
«الخروج من الماء المغليّ»
كان والدي، مثلَ ذلك العالِم التجريبي «الحاضر الغائب» في تجربة الضفدع المغلي؛ ذات يوم قرّر عالمٌ وضع ضفدعٍ في وعاء مليء بالماء وبدأ بتسخين الماء تدريجيًا، ووجد أن الضفدع يحاول جاهدًا أن يتكيّف مع ارتفاع درجة حرارة الماء التدريجي بضبط درجة حرارة جسمه معها، ولكن عندما اقترب الماء من درجة الغليان، عجز الضفدع عن التكيّف مع الوضع هذه المرة، وحاول القفز ولكن دون جدوى؛ لأنه فقد كلَّ قوته خلال عملية التأقلم مع درجة حرارة الماء المرتفعة، وسرعان ما مات. الشيء نفسه يحدث لنا عندما نتكيف مع بيئة سامّة أو ظروف غير صحيّة، فلا ندرك الخطر الذي يحيط بنا إلا بعد فوات الأوان، لكنَّ الأبَ الذي يرى ما وراء الظاهر، يقرِّرُ أن يخرج من هذا «الماءِ السّاخن» قبل أن تشلَّ أطرافه ويغرق فيه. كانت تضحيته، رغم ما عاناه من قلة الموارد، أشبه بقفزة نحو المجهول، لكنّها كانت أقلّ خطورةً من البقاء في نفس المكان.
كان والدي موظفًا بسيطًا، يكتفي براتبه الذي بالكاد يَفي بمتطلبات الحياة الأساسية، لكن ذلك لم يمنعه من اتخاذ القرار الصعب في مغادرة الحي الذي نشأنا فيه. قد يظن البعض أنّ الظروف الاقتصاديّة كانت ستجعل من هذا القرار مستحيلًا، لكن والدي كان يرى أن السلامة والاستقرار ليسا مجرد رفاهية، بل ضرورة لحياة قد تبعدك من مستنقع راكد تتعكر مياهه تدريجيًا إلى نهر تتجدد فيه المياه لكثرة ينابيعها. لذا قرّر أن يُضحي بكل شيء من أجل توفير بيئة جديدة قد تعيد بناء مسار حياة أبناءه، ولو كان ذلك يعني مغادرة مكان اعتدنا فيه على حياتنا، على الرغم من أن ذلك كان يعني أن يواجه صعوبة أكبر في توفير احتياجاتنا في حي جديد.
«منكَ تعلّمتُ» ليستْ قصةً واحدة أرويها هنا وتنتهي، بل هي فصلٌ من فصول نضالٍ طويل، حكايات من العطاء تشبه في قوتها وإلهامها سيرة المناضلين العظماء الذين وقفوا في وجه الحياة. هي سلسلة من الدروس التي تراكمت خلال أربعين سنة من الزواج، كمَن يمضي في درب الجبال، متسلقًا ببطء لكن بثبات، لا يتوقف أمام العقبات، تمامًا كراعي في صحراء الحياة، يقوده أمله نحو آفاق جديدة رغم قساوة الطريق. ومنك، يا أبي، تعلمتُ كيف تكون المقاومةُ في صمت، وكيف يكون الكفاح حياةً بأكملها، منهجًا وقصّة، لا تنتهي فصولها هنا؛ بل هي دروس سأواصل سبرَ أغوارها، وسأشاركها لاحقًا لتظلّ روحك الملهمة حاضرةً، تمامًا كما تبقى حكايات الأحرار والصِلاب حيّةً في ضمائرنا.
Afanine
مجلة أفانين: هي منصّة إلكترونيّة حرّة، وشاملة، ومتنوّعة، تديرها جمعيّة كتّاب الزيتون والمعهد اللغوي الأمريكي بالدار البيضاء، وتضع على عاتِقها أن تفتحَ نافذةً، للكتّاب والفنّانين في المغرب، نحو آفاق الإبداع. تنشر المجلة أعمالًا أدبية وفنية للكتاب والفنانين الشّباب بالمغرب، بالإضافة إلى مقابلات، وبروفيلات، وفرص، وصور فوتغرافية، وغير ذلك. تروم المجلة تسليط الضّوء على إبداعات الكتاب والفنانين الصّاعدين بالمغرب.