خاص بـــ«مجلّة أفانين»، عدنان موحسين **
“أنتايوس العظيم، ابنُ بوسيدون (إلهُ البحر)، وغايا (الأمُّ الأرض) ، كان عملاقًا محاربًا، وبطلًا أسطوريًا لا يقهر، كان يهزم كلّ أعدائِهِ بسهولةٍ بالغة، ويبني من جماجمهم معبدًا لأبيه. لم يتمكّن أحدٌ من إدراكِ سرِّ قوتهِ لأمدٍ طويل، لكنّه ذات يومٍ، ماتَ على يد هرقل بعد صراعٍ أسطوري، فأثناء نزالِهِما المستميتِ تمكّن هرقلُ من معرفةِ نقطةِ ضعفه. كان سلاح أنتايوس هو أمّه الأرض (غايا)، فهو لا يهزم طالما أمكَنُهُ الاتّصال بها، يذهبُ إليها، ينشر التراب على جسمِهِ أو ينتشر عليه فتتجدّد قوته، حين أدرك هرقل هذا، رفعه عن الأرض فخارت قُواه، وضمّه ضمةً سحقت عظامَهُ وأودت بحياتِهِ، في هذه اللحظة بالضبط كانَ…”
صوتُ الجرس
أنقذني الجَرَسُ من درس التاريخ الرّتيبِ هذا، خرجت من الفصلِ مسرعًا قاصدًا البيت، وأنا كلّي ندم على قدومي لهذه الحصّة، فمشاكلي أكبر بكثير من آنتي هذا، أو أنتيوس أو أيًا كان اسمُهُ. كان هذا ما ظنَنْتُهُ لحظتَها، لم أكن أدري أنّ ما يجمعني بهذا المحارب العظيم أكبر من درس التّاريخ، لم أكن أعلم أنّنا سنتشاركُ القدَرَ الأليمَ نفسَه.
صعدتُ الحافلة، أخرجتُ سماعاتي، وصادفتْ عيناي مشهدَ زوجينِ بجانبي يُحَدِّثَانِ صغيرهما، أوقدَ هذا المشهد شرارةً في قلبي، فتعمَّقَ شعوري بالوحدةِ والعُزلة. قدمتُ إلى أمريكا قبل خمسِ سنوات للدراسة، قطعتُ خلالها علاقتي مع كلّ شيء يذكّرني ببلدي، كردةٍ فعلٍ (طبيعيّة ربّما) على ما قاسَيتُهُ هناك. لكنّ العيشَ هنا كان قاسيًا أيضًا، هنا كأنّك داخل عجلة، ركضٌ ينتِجُ ركضًا، لا راحة ولا توقُّف، يَوْمِيٌّ مُسْتَبِدٌّ يُنسِينَا كل شيءٍ، ويُفْرِغُنَا من كلّ شيء، فقدت الإحساس بالأيام، قد أبدو ناجحًا للبعض، لكنّي دفعتُ الثمن غاليًا من هويّتي وتاريخي وذكرياتي.
هنا، لا حبيب يتفقّدني، ولا أنيسَ عندي أسكُنُ إليه. صِرتُ كثيرَ الشُّرُود، أصبحتْ تعتَريني فجأةً نوباتُ الوحْشَة والاغتراب، تطاردُني وتُنَغِّصُ عيشي، ولا أملك لطردِها إلا ما حملتُهُ معي من ذكرياتٍ عشتُها في وطني الحبيب، أتذكّرها فتُخَفِّفُ ثِقلَ الأيام، وآوي إليها فَأَرأبُ صَدَعَ مواجِعِ الوحدةِ والغربة.
في غربتي، ذكرياتي هي كلُّ ما أملك: صنعتُ منها ملاذًا آمنًا آوي إليه حين تشتدُّ عليَّ الأيام، وبنيتُ منها كهفًا دافئًا ألجأُ إليهِ حينَ يهمّني خَطْبٌ أو كربٌ، وصَيَّرْتُهَا درعًا أتَمتْرَسُ وراءه لمواجهه سهامِ الوحشة والوحدة، وركنًا شديدًا يعصمُني من غمرات الحزن والاكتئاب. أنغمسُ فيها بِنَهَمٍ وآخُذُ جُرُعَاتِها بغير اعتدال.
كانت ذكرياتي مثلَ مدينةٍ، يحكمُها وجهُ أمّي المبتسم، يسكنُها أصدقاءُ طفولتي، وأفرادٌ من عائلتي وبعض الحيوانات الأليفة، كقطّ الجيران وعصافيرِ الصّباح. فيها معالم قليلة، كمسجدِ الحيّ والحمّام، ومدرستي الابتدائيّة، وحانوت حَسَن البقّال، كانت الروائح موجودةً أيضًا، روائح لم أجِدْ مثيلًا لها هنا، رائحةُ أمّي تحضِّرُ الخبز، رائحة تجمّعات العائلة، رائحة كَفِّ جدي، رائحة صباحٍ خَالٍ من المدرسة، ورائحة جسمي بعد ساعات لعب مع الأصدقاء.
دائمًا، كنتُ أستذكِرُ ما قاله الشّاعر:
ويُعجِبُنِي في الذِّكْرَيَاتِ سَخَاؤُهَا إذا شَحَّتِ الأوْقَاتُ في الذِّهْنِ تُغْدِقُ
وصلتْ الحافلة، سِرتُ خُطُواتٍ إلى البيت، فَتَحتُ الباب، وقَصدتُ السريرَ مباشرة.
حاولت تذكٌّرَ بعض اللحظات من طفولتي علَّ ذلكَ يؤنسني، فاستعصى علَيَّ الأمر، أظنّ أن مخزون ذكرياتي أوشك على النفاذ. ليس الأمر أنّي لم أحمل معي ما يكفيني منها قبل قدومي إلى هنا، بل وللأسف، لم أصنعها بوفرة هناك؛ ربما لجهلي وصِغَرِ سنّي، أو لأنّي لم أتخيّل يومًا أنّني سأغادر الوطن، وها أنا الآن أتجرع مرارة ما فعلتُ.
لا أدرى حقًا ما يحصُلُ معي؟ ذكرياتي الباقية، رغم قِلَّتِهَا، بدأتْ تَتَلاشى، كلّما كبرتُ في السنّ أفقد قدرتي على التذكُّر، لم أعد أستطيع استحضار تفاصيل عائلتي وأصدقائي أو ملامح موطني القديم. يومًا بعدَ يوم أفقدُ أغلى ما أملك، أفقد ذكرياتي واحدةً واحدةً، مُكَبَّلَ اليَدَيْنِ أراها راحلةً، كلما ازددتُ تشبثًا ببقاياها، كلما تلاشتْ واندثَرَتْ أكثَر، تتحلّل أمامي يومًا بعدَ يوم، لا لسببٍ؛ إلا لأنّها لم تعد تملكُ ما يبقيها لأمدٍ أطول؟ لقد كَبُرَتْ إلى الحدّ الذي ينبغي معه أنْ تموت، لم يعد شيءٌ يجبرُها على البقاء.
يا تُرى هل هَجَرَني وَطَني كما هجرتُهُ؟ هل تَركَني أهلي كما تركتُهم؟ ربما لم يكنْ عليَّ أبدًا أن أبحث عن وطنٍ بديل. وطني وإنْ كان جحيمًا، فإنّي لا أستطيعُ أنْ أتخلّص منه، وفي نفس الوقت لا أريدُ أن أحيا دونه. يا ترى هل هي لعنةُ الاغتراب حَلَّتْ عَلَيَّ تُعذِّبُني؟
تنهدتُ تنهيدةً عميقةً، احْتَضَنْتُنِي وقلت:
- أنا الآن وحدي، أنا آخِرُ مَن تَبَقَّى لي.
- لا لستَ وحدَكَ، أنا إلى جانبك!.
قفزتُ من مكاني فَزِعًا، أظُنُّنِي سَمعتُ صوتًا يخاطِبُني، تَلَفَّتُ يُمْنَةً ويسرة، لم أجدْ غير مكتبتي ودولابي، ضحكتُ مما حصل، أعتقدُ أنّي أتخيل:
- فعلًا الهلوسةُ هي ما كانَ ينقُصُني الآنَ هههههه…
اسْتَلَّنِي النومُ من سَيْلِ الأفكار هذا، حَلَّ الصباحُ بسرعة، ودخلتُ عجلةَ الحياةِ من جديد.
مضتْ الأيامُ وأعياني شعورُ الوحدة والعُزلة، لم أستطِعْ المواصلةَ على هذه الحال، هربتُ من جحيم وطني لأجدَ هنا جحيمًا أكبر منه. كنت أتخبط في متاهاتِ الشرود والتّيه، لم يعد شيءٌ يُصَبِّرُنِي على واقعي المَرير، لا ركنَ لي آوي إليه، ولا حضنَ عندي أرتَمِي فيه، لا أحدَ يسألُ عنكَ هنا، أو هناكَ، فعلًا صَدَق مَن قال “الوحدةُ أشدُّ من القَتل”، هل قالَ أحدٌ هذا فعلًا؟
على سريري كالعادةِ في يومٍ من الأيام، مستغرقًا في التفكير، وإذْ بصوت يُخْرِجُنِي من رأسي:
- أنت اختَرْتَ أن تَضِيع، فلا تنزعج إنْ لم يبحثْ عنكَ أحد.
جاءَ الصوتُ من خلفي هذه المرة، كان أوضَحَ وأعلى، تسارَعَتْ ضرباتُ قلبي، أدَرتُ عُنقي ببطيء ناحية الصوت، وقلت بنبرة مرتجفة:
- مَنْ هُناك؟
رأيتُ شبحًا ضخمًا مَفتُولَ العَضَلاَت يقف جَنْبَ مكتبتي، كان وجهُهُ مألوفًا جدًا، استجمعتُ نفسي، ردّدت كل ما عَلِقَ بذهني من تعاويذ وأذكار، وقلتُ بنبرةٍ واثقةٍ بعضَ الشّيء:
- أظنُّني رأيتُكَ من قبل…لكن لا أتذكّر أين.
ظلّ صامتًا يَتَفَحَّصُنِي بعينيه للحظات، ثم قال:
- ما أشبه قَدَرَكَ بقَدَري يا صديقي!
أجبتُهُ باستغراب:
- لم أفهمك، ماذا تقصد؟
قبل أن يجيبني، اعتدَلَ في وقفَتِهِ، رفعَ رأسه، وقال بشموخٍ وتَبَخْتُر:
- أنا أنتايوس العظيم، قاهرُ العمالقة وحامي أراضي الإغريق.
وأضافَ:
- تم قتلي حين ابتعدتُ عن أمّي الأرض (غايا)، وأنتَ مثلي تموتُ هنا كلَّ يومٍ لتدفع ثمن ابتعادك عن أرضكَ ووطنك، أنا أنتايوس العظيم، لا أُقْهَرُ طالما أتَّصِلُ بترابِ أمي، وتضعفُ قوايَ حينَ أترُكُه.
دخلت كلماتُهُ سهامًا فيَّ، وَهَنَ جسمي وبَرَد، وقعتُ على السرير من الرّهبة، ومَرَّ شريطُ حياتي أمامي بسرعة، لم أَنَمْ تلك الليلة، ومرضتُ لأيامٍ بعدها. أيقظتني كلماتُهُ تلكَ من سباتٍ دامَ سنوات، استصعبتُ العيشَ بعدها، فقد نَزَعَتْ غشاءً غَلَّفَ عينيَّ وقلبي.
مرتْ ثلاثة أشهر على الحادثة، اخْتَمَرَت كَلماتُه في ذهني، صِرتُ أرى الأشياء على حقيقتِها الآن، أصبحتُ أكثرَ حنينًا لأيّ شيءٍ يذكّرني بالبيت. في ليلة كسابقاتها اسْتَلَّنِي النَّومُ كعادته من سَيلِ أفكاري، لكني استيقظتُ مختنقًا بعد وقتٍ قليل، لم يعد هواء هذه الأرض يملأ رئتيَّ، نهضتُ أصرخُ كمَنْ فقَدَ صوابِهِ، وقد بلغ الحنين منّي مبلَغَهُ:
ماذا أفعل هنا؟ أين حقيبتي؟ أينَ جواز سفري؟ (غايا)، انتظريني، ابنكِ راجعٌ إليك، فلا أرضَ لمَنْ هجر أرضَه.
** نشرت هذه القصّة ضمن المجموعة القصصيّة “الإقامة في المؤقت” والتي أنتجها المشاركون في النسخة الخامسة من مخيّم كتاب الزيتون للكتابة الإبداعيّة 2023
Afanine
مجلة أفانين: هي منصّة إلكترونيّة حرّة، وشاملة، ومتنوّعة، تديرها جمعيّة كتّاب الزيتون والمعهد اللغوي الأمريكي بالدار البيضاء، وتضع على عاتِقها أن تفتحَ نافذةً، للكتّاب والفنّانين في المغرب، نحو آفاق الإبداع. تنشر المجلة أعمالًا أدبية وفنية للكتاب والفنانين الشّباب بالمغرب، بالإضافة إلى مقابلات، وبروفيلات، وفرص، وصور فوتغرافية، وغير ذلك. تروم المجلة تسليط الضّوء على إبداعات الكتاب والفنانين الصّاعدين بالمغرب.