احتفاءً بـ«اليوم العالميّ للّغة العربيّة»

 

خاص بـــ«مجلّة أفانين»؛ هدى الشماشي، شيماء قويون، رجاء كردي، أحمد دبيش، محمد المؤدن

يحتفي العالمُ، في الثامن عشر من (ديسمبر) كلَّ عام، باليوم العالميِّ للغة العربيّة. وليسَ من الأهميّة بمكانٍ «الوقوفُ على أطلالِها»، يومَ كانَتْ إحدى اللّغات العالميّة الأكثر أهميّة؛ فقوّة اللّغة من قوِّةِ أهلها، وقوّة الناطقينَ بها؛ وسُلطتُها، على المتلقي و«الآخر» في آنٍ معًا، تُستمدُّ من المكانة الاجتماعيّة أو السياسيّة أو المؤسّسية للذي يتكلّمُها، حسبَ بيير بورديو وهو يوجّه نقده شبه الحادِّ لرولان بارت، الذي رأى أنّ للغة سلطةً مُحايثة بذاتها.

لكن من الأهميّة بمكانٍ أنْ نفكّر باللغة العربيّة «هُنا والآن»، وأنْ نفكّر بمآلات الناطقينَ بها (عبرَها). قالَ رينان مرّة إنّ “الفرنسيّة لا يُمكنُ أنْ تكونَ لغةَ المُحال والعبث، كما أنّها لا يمكنُ أنْ تكونَ لغةً رجعيّة؛ ولا أتصوَّرُ موقفًا رجعيًا يستعملُ الفرنسيّة كأداة…”، فهل يُمكنُنا في وقتٍ ما (راهنٍ أو قادم) أن نقولَ هذا عن اللغة العربيّة؟ وعبرَها؟ وماذا يلزمُ لذلك من نضالاتٍ طويلةٍ (متزامنةٍ وغيرِ متزامنة) للإفلاتِ نحو الأمام.

تقدّم «مجلّة أفانين» احتفاءها الخاصَّ باليوم العالميّ للغة العربيّة (2024)، عبرَ نصوصِ كُاتباتها وكتّابها.

فريق التّحرير

ما تفعلُهُ العربيّة بالمعنى، هدى الشماشي

تعلمتُ اللّغة العربية في حدود السادسة من عمري، وكان السّببُ هو الشعر. كان أخي الأكبر المتعلِّم يقرأ علينا قصائدَ لمحمود درويش أو معروف الرّصافي أو عمرو بن كلثوم دون ترتيب، وقد انبهرتُ بقوة الكلمات منذ البداية، مع أنني لم أفهم أيًا منها، أنا الأمازيغيّة التي تعلمت اللغة العربيّة الفصحى قبل حتّى أن أتعلم الدارجة المغربيّة في المدرسة.

كان الحديثُ عن شياطين الشعر أمرًا عاديًا في بيتنا، وأخي نفسه كان يكتب في كل مكان، ثم يقف بيننا مثلَ نَبيٍّ وَجِلْ ونجتمع حوله؛ لنتلقفَ الحكمة والكلمات متعطِّشين، أما أنا فقد تعلقت لحداثة سني بحرفي الضّاد والقاف القويّة التي كانت تتكرّر كموسيقى، ثم جاءت الأغاني بعد ذلك، و«سجلتُ أنني عربية» ككل من ردّدوا أغاني مارسيل خليفة منتشين. وبدا لي أنّ هذا التصريح يحمل دائمًا شيئًا من النضال في جوفه، قلقًا ما وقضية ثقيلة الوطئ وأسئلة. كما بدأت القراءة بدوري فاندلقت الكلمات على لساني مثل جميع الأشياء المنتظرة والمشتهاة، وعرفتُ عندها ما قد يفعله الشاعر أو الكاتب باللغة، وما قد تفعله اللغة العربيّة بالمعنى، وما قد تخلُقُه من عوالمَ لا يضاهيها فيها أحد، إذ إنّ لها تلك القدرة الشّعرية المرنة الحلوة على قولِ ما يستعصي عليك في لغة أخرى، والحفر عميقًا في صوتك للبحث عن السرِّ المكنون في الصدر، فـ«اقرأ» واصدَح بما لم تؤمر به؛ لأنها لغة حرَّةٌ حرَّةٌ، وقد حلقت إلينا طليقة دائمًا وعامرة بالإمكانات التي لا تستنفذ ولا تنتهي.

مَن دَرَّسك؟ شيماء قويون

في سنّ الخامسة، كنتُ أشاهد والدتي تُكدّسُ قرب طاولة بجانب سريرها قصصًا وروايات عربيّة تقرأها قبل النوم. في سنّ الثامنة، يتأثّثُ منزلنا الصغير بخزانة كتبٍ ضخمة. ولأهميّة الحدث تُلبسني أمي فستان الحفلات فأقف أمام المكتبة مُمسكة بيد أخي الأصغر وتأخذ لنا صورة احتفالًا بقدوم «العضو الجديد» إلى العائلة.

 نكبُرُ معًا؛ المكتبة وأنا. ألعبُ بجانبها، أرسم على أغلفة كتبها مرةً، ومرة أحاول قراءة فحواها. كتبٌ دينيّة وكتبٌ عن فن التربيّة، روايات لنجيب محفوظ ودواوين محمود درويش. من هناك بدأ حبّ «لغة الضاد».

في سنّ الثالثة عشر كنتُ تلميذةً مُشاغبة في نظر أستاذ اللغة العربيّة الذي التحق بالإعدادية حيثُ أدرُس. حركةٌ سخيفة منّي أثناء إلقائه للدّرس جعلتني في مأزقٍ معه وطردني من الفصل. أردتُ أن أعتذر عن تصرّفي فكتبتُ رسالة اعتذار ووضعتها على مكتبه. في اليوم التالي ناداني إلى قسمه وقال: “لقد شفع لك أسلوب كتابتك للرسالة، لُغتك سليمةٌ وأسلوبك جميل. هل تكتبين القصص؟”، وكانت تلك بدايةً جديدة لتلميذةٍ تكتب خواطرَ وأستاذ اللّغة العربيّة يوجهها لتكتب القصص. صار ينتظر منّي نصوصًا جديدة كلّ أسبوع، يصحّح أخطائي الاملائية ويقترح عليّ عناوينَ لأقرأها.

اليوم، كلّما سمعتُ أحدًا يقولُ (بتفاخرٍ غبيّ): “ماعنديش مع العربيّة”، أسأله: مَن درّسك؟

كلّ عامٍ واللّغة العربيّة منطوقةٌ ومسموعةٌ وحاضرةٌ وأنيقة، وليكفيها الذي “جعل الجمال وسره فيها” من شرّ العُنصريين الذين يخافون حروفها، المُتعجرفين الذين ينكرونها، والأغبياء الذين يظنّون أنّ اتقانها تخلّفٌ ورجعيّة.

 

عن كيليطو، رجاء كردي

في 18 (دجنبر) من كلّ عام، نحتفي بـ«لغة الضّاد». تم اختيار هذا التاريخ لأنه يوافق اليوم الذي أُدرجت فيه اللغة العربية ضمن اللّغات الرسميّة في الجمعيّة العامة للأمم المتحدة عام 1973.

هذه المناسبة، جعلتني أستحضر كتابَ “لن تتكلّم لغتي” للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو. في هذا الكتاب، يعمّق كيليطو فهمنا للعلاقة بين اللغة والمعنى؛ إذ يرى أنّ المعنى لا ينبثق فقط من الأفكار، بل هو متجذِّرٌ في اللغة نفسها. فالآخر لا يرانا كما نرى أنفسنا، بل كما تراه لغته، بما تحمله من خلفيات ثقافيّة واجتماعيّة وتاريخيّة. يذهب كيليطو إلى أبعد من ذلك، ليطرح تساؤلات مثيرة: كيف نرى هويتنا من خلال نظرة الآخر إلينا؟ وكيف تُشكّل لغته الصورة التي يحملها عنا؟ تساؤلات وأجوبتها تتقاطع عبر مراحل تاريخيّة في تطور الكتابة والشّعر والترجمة، في كتابٍ يفتح أمامنا أفقًا جديدًا لفهم الذات والآخر عن طريق اللغة.

 

 

لغةُ العلا، أحمد دبيش

في كلِّ فجرٍ مُشرقٍ بــــهواكِ

أنوي حزينًا في الدُّجى فُرقاكِ

وأقولُ في نفــسي بأنّي تَائهٌ

مُتخلفٌ أنَّي اتّبـــعتُ هواكِ

وبأنَّــني ضَجِرًا سأمضي طَالما

أغفوا وأصحوا حاضنًا ذكراكِ

وبأنّــني منْذُ اتّبعتُكِ سائرٌ

فوقَ القصائدِ مُبحرٌ لهــلاكي

خالفتُ قومي في هواكِ ومُنيَـتي

أن ترضَ عنّي لا هُمُ عَينَـــاكِ

نَسبوا إليّ الجهلَ والحمقَ الذي

يَرمي، كما زَعموا، الفتى بهــلاكِ

ومضَيتُ أرفلُ في طريقٍ مُزهرٍ

بقصائدي، مُستلهمًا بهـــداكِ

في وسطِ حُضنكِ بالقصائدِ أرتمي

 مُستَـــمتِعًا مُتفاخرًا بهــواكِ

وأصبُّ شكوايَ الحزينةَ أدْمُـعًا

فتسيرُ شِعرًا طَاهرًا كلَـــمَاكِ

حاولتُ أن أنساكِ يومًا واحدًا

فوجدتُ كُلّي، مرغمًا، يهْــــواكِ

والله لَو خانَ الجميعُ وجدتِـني

وحدي على جمرِ الغرامِ فِداكِ

إن كانَ عشقُكِ يا جميلةُ مُهلكي

أنعِم بِهِ مِنْ مَهلَكٍ وعـــرَاكِ

لغتي.. جراحُ القلبِ تغفو كُلُّـها

في ذِكرِ اسمكِ أو رحيقِ نَداكِ

يا منْ عشقتُكِ مُنذُ مَهدِ طفولتي

وظلَـلتُ إبنًا هـَـائمًا بســـماكِ

فارقتُ من أهوى وشَطّ بيَ النوى

فغدَتْ جَليسي في النَّوى عيناكِ

وظللتُ من دونِ البريّةِ كلِّـها

دنِفًا بحبِّكِ حَـاملًا للواكِ

ماذا أقولُ وقد تلعثمَ حرفُهُ

شعريْ وضاعَ الفكرُ في الأَفلاكِ!

الشعرُ أنتِ.. وأنتِ كُلُّ قصيدِنا

ما الشَّعرُ يا لغةَ العُلا لولاكِ!

ما الحبُّ ما التاريخُ ما نورُ الرؤى!

إلا ركابًا خلفَ وَهجِ خُطاكِ

حَسبي بأنَّي في عيونكِ مُبحرٌ

بخيالِ شِعري … دفتريْ وهَواكِ

ما أعذبَ الألحانَ في أشعارِنا

سحرُ البيان ودقةُ الإدراكِ!

لماذا لا أحلمُ بالعربيّة؟ محمّد المؤدن

 منذ صغري وأنا أسمع أنّنا محظوظون لأنّ لغتنا هي العربيّة. لكن أسئلة كثيرة كانت تحاصرني وأنا أحمل هذا التّصور الجاهز، فأتساءل في كلِّ فرصة متاحة عن اللغات الأخرى وأهميتها. مرت السنوات وكبرت قليلًا، وبدأت أقرأ نتاج هذه اللغة لأجدني أمام لغة فكرت أنني قد لا أستحقها؛ لأنني لا أقدم لها شيئًا كثيرًا، لغةٍ تحدث بها النبيُّ الأعظم، لغة تطلب مني تخيُّل عصفور وتقوم هي بتعليمه الطيران والتحليق فوق كل شيء.

بمناسبة اليوم العالمي لهذه اللغة، تساءلت: لماذا لا أتحدث اللغة العربية أثناء الحلم؟ فهي اللغة التي أكتب بها وأقرأ بها وأستمتع بالإنصات إليها. فكرت في الأمر كثيرًا، والحقيقة أني وددت لو أنني أتحدث بها في الحلم، ولكن لساني قد فطر على الكلام الدارج لا الفصيح، هنا تساءلت مرة أخرى: هل يجب أن أحتفل باليوم العالميّ للغة العربيّة؟ وأنا الذي لا أحبُّ الاحتفال بهذه الأيام؛ لأنها في الغالب تصبح تقليدًا نقوم به جراء اعتيادِنا عليه.

أحقًا للعربية يوم؟ لو كان الأمر بيدي لجعلت في كل شهر أسبوعًا لها، ولكن البشرية كُتب عليها ألا تدرك قيمة الشيء حتى تفقده. إنّ العربية ليست لغة الأدب كما يراها بعضنا فقط؛ لكنّها وعاءٌ لمسير فكريّ أنتجَ العظماء والنّوابغ، هي ملامح الوجوه التائهة والطريق نحو القلوب الباردة؛ إنّها التي تصف تقلباتي بدقة، وتلد كلمة تعبر عن مشاعري بمهارة لا شيء يضاهيها.

أعلم أنّني أتحدث بحماسة، ولكنّني متأكد من أنّ العربية صديقة تضمني بشعرها حين أكن وحيدًا، وتدفئني بنثرها حين أغادر بيت أمي، تخبرني بما كان يحس به امرؤ القيس وبشهامة عنترة وحكمة زهير، وخيبة درويش، وتصوّف الرومي، ونظرة الجاحظ للبخلاء…، إنّ كلَّ واحد عبّر داخل اللغة الواحدة بطريقة مختلفة، وهي اللغة التي أفهم بها صديقي السوريّ أو الفلسطينيّ أو المصريّ أو الأردنيّ ويفهمني بها. ختامًا أقول: لعلي لا أحلم بالعربيّة؛ لأنها لغة الصدق والوعي، لا مكان لها في حلم كاذبٍ نسجه اللاوعي.