خاص بـــ«مجلّة أفانين»، فدوى بوعملات **
ذاتَ حرب، كتبتُ مرةً: كلّ ما أريدُ هو أنْ أستيقظَ غذًا في قبر. بالطبع هذا لم يحصُل. استيقظتُ على نعيق الغربان، ورائحة الموت.. ولكنّي لم أمُتْ. فتحتُ شرفة غرفتي، كانتْ أشجارُ الزيتون في حديقتنا تجري وتتدافع في طابورها الأزليّ، وكانت المنازل قربنا تتباعد، كقبضةٍ يدٍ ارتخَتْ ذات غفوة، فاستثقلتُ الخروجَ، كنتُ أحسُّ أنّ شيئًا ما يحدث.
كَم أفتقِدُ صوتَ فيروز هذا الصباح. تسللت على أصابِعِ قدمَيَّ مثلَ قطٍّ، وما إن مددتُ يدي لأفتحَ الأبوابَ لصوتِها، حتّى انفجَرَ المذياعُ، واختنقتْ فيروزُ برصاصةٍ طائشةٍ. صعقتُ.. وتسمّرتُ مكاني. كان العدوّ على عتبةِ الباب، في يده اليمنى يحملُ رصاصًا، وفي يده الأخرى يحمل أغلالًا من ذهبٍ ورُزَمَ نُقود!، وكانَ (أبي) يقفُ خلفَهُ بجمودٍ، باهِتَ اللّون…، إذن؛ تمت المقايضة، وأمي تحومُ حولنا كشاهِدِ إثبات.
لم تَصدُق، يومَها، أمُّ كلثوم، فاستعجَلُوا الألفَ ليلةٍ في ليلة؛ كبّلوني.. نهشوني.. وأكلوا يَدَيَّ ولساني. لم يلبَس أحدٌ منهم لا أبيضَ الفرحِ ولا أسودَ الحداد، كانوا رماديينَ.. وعلى عتبة الدّار قالوا لي: ستنجبينَ أطفالًا، سيكونونَ كموسى النبي في قصرِ فِرعون، سيكبرون، ستنتهي الحربُ، وستعود الأرض لنا.
لم أبكِ يومَها. كنتُ جالسةً على أطرافِ المشهَدِ أتساءلُ بسذاجةِ الأطفال: متى صَغُرَ أبي إلى هذه الدرجة؟ متى كانَ فقيرًا؟ متى اقتحموا غرفتَي وحزَموا حقائِبي؟ أليس من الضروريِّ أن أتناولَ وجبةَ إفطاري أولًا؟ أليسَ من المُخزي أن تُجْهِضَني أمي بعدَ ثمانيةَ عشرَ عامًا؟
وقبلَ أنْ أسأَلَ، هل سيعيشُ وَطَني الآنَ بعد (تضحيتي هذه) مثلًا؟، كانت يدُ العزيز تجرّني. كانَ يجرُّ بضاعَتَه بين جثت الجيران التي تحدّق من النّوافذ، كانت الشمس تأفُلُ، والليل يقتربُ بصمته الثقيل، وكانَ شيخٌ كبيرٌ يمرُّ على عنق بلدتي المنحنيةِ يذبَحُها في وضح النّهار.
وكانَ حبيبي يختبئُ وراءَ جذعٍ مكسور، نائمًا في هدوء، “لا تسألوني ما اسمُهُ حبيبي”، أردتُ أن أصرخُ في الحشد أن اصمتُوا لا تقلقوا نومة حبيبي. وما كان لي إلا أنْ أنظُر. كانت الدماء تجري حوله تفوح منها رائحة المسك، كان أنيقًا حتّى في وداعه كما حبّه، وكنتُ أنا هناك وقد غلّف الظلامُ عقلي وأحاط أوصالي ببروده، لكنّني لم أبكِ، تساءلتُ فقط: هل نظر قاتلك إلى عينيك قبل أن يطلقَ رصاصَتَه؟ لا شكَّ لم يفعَل، فلو كانَ نظَرَ كانَ اهتدى، وكانَ جلسَ جواركَ مطمئنًا، وربما أشعلَ سيجارة لك وله، وقطفَ نعناعًا.. لك وله. وربما كنتَ ستشكُرُهُ بلهجَتِكَ المختلطة، لهجتك المسافرةُ بين الشّرق والغرب.
لفظتني بلدتي تلكَ الليلة خارج حدودها، وأخذني المستعمِرُ بين ذراعيه، يتيمةً، وكانت أوّلُ كلماتِهِ لي: أنْ ابْتَسِمي، فنحن على أبوابِ وطنِكِ الجديد.
تساءلتُ في نَفْسي: أو لم يكن لي وطنٌ؟ بلى، لي فعلًا وطنٌ من لحمٍ ودم، وطنٌ على اسمي واسم أبنائي واسمِ حبيبي، لي وطنٌ ليسَ فيه شيءٌ من مدينتكم الكبيرة، مدينةُ الثرثرةِ، والكلاب المرفّهة، وشركات التأمين ونساء حبوب منع الحمل. لي وطنٌ وأنا وطنٌ له.
انتَفَضَ أمامي مثلَ وحش، لفّ أصابعه حولي كمَنْ يُريدُ أن ينزعَ عنّي جلديَ كلّه، أخرسَني، مَسَحَ الكحلَ العربيَّ من عينيَّ، خربش على خطوطِ يدي، فسقطتْ حروفُ اسم حبيبي الأربعة. اقتَحَمَ أضلُعي أو كَسَرها في ليلةٍ ما ظننتُ أنّ أبي سيترُكُ بابَها ويذهب، مزّقَ أشرِعَتي.. مَلابسي، ولا أذكُرُ في أيِّ ساعةٍ من ساعاتِ الليل بدأَ فتوحاتِهِ في أرضي، كل ما أذكُرُ أنّ دمي لم يتوقّف، ظلّ يمتدُّ إلى ما بعدَ حدود صحراء سيناء.
كنتُ أنا أبحِرُ ببقايا شراعٍ ممزّق، وما أنْ أكاد أصل إلى مرفَأِ عينَيْ حبيبي الحانيتينِ حتّى أستيقظَ على حقيقةِ رجلٍ آخر، رجلٌ ذوقه رديءٌ في اللّباسِ والكلماتِ و…، رجلٌ يضعُ المسدّسَ على جبيني ويصرخ: أَخْرِسي الطِّفْلَ، أريدُ أنْ أنام.
ليلتها، سمعتُ صوتَ فيروز مرّة أخرى من أماكنَ قديمة، من شظايا المذياعِ المَكسور ربّما. وقفتُ أمامَ المرآة بوجهٍ لا أعرفُه، (كنتُ كمَنْ بُعِثَ من موتٍ طويل)، كان وجهي باهتًا..، وكانَ لا يكادُ يُرى عبر دخانٍ غريب كان ينبعثُ لا أعرف من أين.
لقد استيقظتُ بعد سبعينَ عامًا أو أكثر!، وكان ابني مثلَ قاربٍ من الصّلوات يدخلُ شواطئي المغسولة بالدّنس، كان ابني يكبر داخلي أو خارجي، كان ينبض وكنت أسمعه يقول لي: لا أريد أنْ أتّسخ!، والله.. أنا لستُ موسى.. وليسَ لي صلةٌ بما يفعله الأنبياء!
التقطتُ وسادة من سريري البارد، وضعتُها على وجهِ صغيري، لا يجبُ أن يزعجَ الأطفالُ آباءهم.. لا يجبُ على الأطفال أن يحضروا جنازةً قبل ختانِهم.. لا يجبُ على الأطفالِ أنْ…، وبنفس الخُطى الرشيقة، التقطتُ وسادةً أكثرَ برودة، لحظَتَها رأيتُ وجه زوجي لأوّلِ مرة، كم كان مخيفًا وفيه نفحةٌ من الجحيم. لا يجبُ أيضًا أن أرفُضَ لزوجي طلبًا، يجبُ أن يحظى بنومةٍ هادئةٍ، يجبُ أن ينام زوجي، للأبد؟، علَّ الوطَنَ يستيقظ غذًا.
هدأ زوجي أخيرًا، ارتخَتْ قبضَتُهُ وسقطَ مسدّسه. خفتُ كثيرًا، لا شكّ أنّه سيظنّني حاولتُ سَرِقته، لا شكّ أنّه سيلاحقُني، وقد يأخُذُ طفليَ أيضًا.
ابتعدت بسرعةٍ، دثّرتُ صغيري بي، كنتُ أركضُ دونَ وجهة تحت النجومِ المضيئة، أسمعُ غمغمةَ الموجِ ويمرُّ على وجهي طيفُ الأشْرِعة، وكانَ شيءٌ ثقيلٌ ترسَّبَ في عينيّ يذوبُ، لقد ترسّبَ لسبعينَ عامًا أو أكثر، وكانَ على شكلِ سؤالٍ مُلِحٍ: متى سأعود؟ أو هل سأعودُ أصلًا؟ ودائمًا، ما يكونُ الجوابُ صمتٌ رهيبٌ يتخلّله صوتُ الحرب، وصوتُ زوجي وهو يعيثُ فسادًا في أرضي، ويختلِسُ ثماري ليلًا ثمّ يغسِلُ يديهِ على صدري.
تابعتُ المشيَ، وكان شيءٌ يدفعني، صوتٌ دفينٌ يناديني. توقّفَتْ خطواتي فجأة. عدتُ للحظةِ ذاتها: أمدُّ يدي لأفتحَ الأبوابَ لصوتِ فيروز. وكانَ حبيبي نائمًا مكانه، و”لا تسألوني.. ما اسمُهُ حبيبي”.
** نشرت هذه القصّة ضمن المجموعة القصصيّة “الإقامة في المؤقت” والتي أنتجها المشاركون في النسخة الخامسة من مخيّم كتاب الزيتون للكتابة الإبداعيّة 2023
Afanine
مجلة أفانين: هي منصّة إلكترونيّة حرّة، وشاملة، ومتنوّعة، تديرها جمعيّة كتّاب الزيتون والمعهد اللغوي الأمريكي بالدار البيضاء، وتضع على عاتِقها أن تفتحَ نافذةً، للكتّاب والفنّانين في المغرب، نحو آفاق الإبداع. تنشر المجلة أعمالًا أدبية وفنية للكتاب والفنانين الشّباب بالمغرب، بالإضافة إلى مقابلات، وبروفيلات، وفرص، وصور فوتغرافية، وغير ذلك. تروم المجلة تسليط الضّوء على إبداعات الكتاب والفنانين الصّاعدين بالمغرب.