كأسُ شاي بمذاقِ البصل

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، مريم الفارسي

لم ينتبه إلى كأس الشّاي الذي كان باردًا، ولا إلى مذاق البصل الذي تسرّب رذاذُه إلى الإبريق؛ حينما كانت والدتُه السبعينية تقشّر البصل في المطبخ. على غير عادته لم يتذمّر «حكيم». لقد شربَ الشّاي بهدوء كبير وهو يطالع شاشة هاتفه «الآيفون»، ثمّة علاقةٌ مبهمة بين العاطلين عن العمل، مثلَ «حكيم»، وبين الهواتف الفاخرة؛ كأنّه يقول للعالم: نعم إنّي فقير لكنّني أمتلك على الأقل هاتف «آيفون» بكاميرا ممتازة، تصوّر سطوح “جبل الرايسي” عند الغروب لتبدو كأنّها عفنٌ يعلو خبزًا بائتًا.

“الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصّالحات”. قرأها على «الفايسبوك» في منشورٍ لجارته سميرة. لقد تزوّجت هذه المجنونة مرةً ثانية إذن. لم يشعر بشيء، كان من المفترض أن يحزنَ ربّما، لكنّه لم يشعر بأيِّ شيء، إذْ لم يعُد يحسُّ بمذاق الأشياء والأحداث منذ أيام كثيرة.

كانت سميرةُ حبيبته الأولى، فمعها جرّب كلّ شيء حينما كان العالم أكثر بساطةً. قبل سنوات، (يتذكَّرُ)، قبّلها أوّل مرةٍ في زقاق مظلم، هو يعلم أنّه لم «يتذوّق» في حياته قبلةً ألذّ من تلك. لكن هذه الذكرى لا تؤلمه الآن ولا تسعده أيضًا؛ لقد كبرت همومه جدًا أو قُلْ شاخَتْ. «طارت» سميرةُ من بين يديه حينما تزوّجت زواجها الأول، وحينما تزوّجت مرة ثانية، ويبدو أنّها ستظلّ تطير منه دائمًا إلى غير رجعة، كما طارت من بعدِها سعاد وأنيسة وشهرزاد وملاك ونساء كثيرات.

كانت آخرُ علاقةٍ غراميّة له مع ملاك، التي لم تكُن تشبِه اسمها في شيء؛ كانت حادّة الطّباع، و«شيطانةً» حينَ يتعلّق الأمر بمعارك السّرير. تصغرُه ملاك، طالبةُ الصّحافة، بـ(17) سنةً بحالها، تعرّف إليها في إحدى الليالي المجنونة بحانة “ليسكال” الحقيرةِ وسطَ الرّباط المدينة. كان ذلك قبل زمن «كورونا»، وقبل أن يتغير شيءٌ ما في الناسِ إلى الأبد. حدث ذلك تحديدًا ليلة رأس سنة (2019)، وفي صباحِ ذلكَ اليوم استيقظ في شقة صديقه المحامي فريد بحيّ حسان، فوجدَها جانبَه. كانت ملاك فتاةً ساحرةً في كلّ شيء.

 لا يعلَمُ إن كانتْ أحبَته، ولا إنْ هو فَعَل. لكنّهما استمرا في علاقةٍ مبهمة أربعَ سنوات كاملة، كانا يفترقان فيها ويعودان ثم يفترقان مجددًا. مرّةً سمعَها تقول لإحدى صديقاتِها في مكالمة هاتفيّةٍ إنّه مُجرّد «s*x friend»، ماذا تعني الجُملة في قاموس هذا الجيل؟، لم يفهم ولم يُرد الفَهم، كان يكفيه حضورها في حياته، وكانت تكفيه «الانتصاراتُ» التي تشهدُ عليها جدرانُ شقة فريد، وأحيانًا أقبيةُ حانات الرّباط. لكنّها بعد كلّ ذلك «طارت» هي الأخرى، وفي آخرِ لقاءٍ لهما قالت إنّه “نرجسيٌّ ومعقد ومريض نفسيًا وإنّ موتَه أفضل من حياته”، ثم بصقت في وجهه ورحلت.

 لماذا قالت هذا الكلام؟، ماذا كانت تنتظرُ من رجل كبير قادمٍ من هوامشِ الرّباط السوداء، ركض العالم بأقصى سرعةٍ وتركه وراءه، يحتسي زجاجاتِ «ماء الحياة» وينفث دخانَ لفافاتٍ رديئةٍ قد تقتله في أيّة لحظة؟ ثُمّ.. ألَم يكونا مجرّد «s*x friend» فقط؟

يوم افترقا، احتسى  الشّراب حتّى أغمي عليه، ونسي طريق المنزل.

– “إنّ فتيات هذا الجيل غير مفهومات يا صاحبي، ثمّ كما جاءت ملاك ستأتي إسراء ونهيلة ووئام…”.

… قالَها صديقُه فريد وانفجر ضاحكًا، ثمّ سريعًا لملم قهقهاته حينما رأى دمعةً يتيمة انزلقت من عين «حكيم» اليُسرى. عرفَ فيما بعد أنّ ملاك غادرت إلى دبي، وأنها تعمَلُ في إحدى المؤسّسات الإعلاميّة المعروفة. قد تكون ملاك نسيت هذا الكلام الذي قذفَته في وجه «حكيم» ذات ليلة، قد تكون نسيت «حكيم» تمامًا، لكنْ هو، وحتّى اللحظة، لم ينسَ السّكاكين التي غرزها كلامُها في قلبه.

أحب و«ضاجَعَ» هذا الرجلُ الذي قارب الأربعين نساءٍ كثيرات، لكنّه على نحو غريب لا يتذكر إلا سميرة وملاك، بل إنّه يتعقب أخبارهنُّ بشكلٍ يوميّ تقريبًا.

– “حكيم! انزل للحانوت وقُل للحسين أن يعطيك ربطة بقدونس، إياك أنْ تعطيه درهًا واحدًا لقد أعاد لي الصّرف ناقصًا أمس”.

خاطبته أمه صارخةً. وقبل أنْ تُتِمَّ جملتها الطويلة كان «حكيم» قد وصلَ الحانوت. وحينما وقف أمام المنضدة نسي تمامًا ماذا طلبتْ منه. حينما كان صغيرًا كانت أمّه تنعته بـ«الحمار» كلّما أحضر لها السّميدة بدلَ الطحين، والطّحينَ بدلَ السميدة. لماذا يتذكر اليومَ كلّ ماضيه دفعة واحدة؟، خطرَ له أنْ يسأل البقّال:

– “الحُسين هل حدث أنْ استعدتَ ذكريات حياتك كلّها في يوم واحد؟”

نظر إليه الحسين الذي كان منهمكًا برصِّ بعضِ العُلبِ فوق بعضها عند الزّاوية، وقال:

– “آش غانقولك آودي أ حكيم. يقولون إنّ الإنسان قبل أنْ تتوفاه المنيّة بقليل يعبُرُ أمام عينيه كلّ ما اقترفتْ يداه منذ بدأت الملائكةُ تسجيلَ خطاياه”.

– “ناوِلْني علبة گارو وادخل سوق رأسك”.

خرج من بعدها غاضبًا مثلَ ثور هائج، وهام في أزقّة “جبل الرايسي” الضيّقة دونَ وجهة. أحسَّ لحظتَها أنّ العالم كلّه يجثم فوق صدره.

 لماذا أغضبه كلام رجل بسيط كالحُسين؟، هل لأنّه يخاف الموت؟ أم لأنّه يحبُّ الحياة؟، ولماذا سيحبُّ هذه الحياة التي لم تعطِه شيئًا غيرَ البؤس. دائمًا كان «زَهْرُهُ» ناقصًا؛ لقد درس كثيرًا ثم توظَّفَ كلُّ رفاقه إلا هو. وحدَه «حكيم» من بين كلِّ أصدقائه لم يسلك طريقًا واضحًا، عمِلَ في كلِّ شيء وأيّ شيء، لكنّه عادةً ما كان يُطرد أو يستقيل.

 قال له فريد مواسيًا حينما استقال من آخر عملٍ له:

– “مُشكلتك إنّك حقيقي يا حكيم، عليك أن تتعايش مع  «أولاد العاهرات»، وإلا بقيتَ حياتك كلّها في حضن أمُك كما تفعَلُ الفراخ”.

هل كان فريد محقًا؟ هل سيعيشُ «حكيم» ما تبقى من حياته جنبَ أمّه في “جبل الرايسي”، ويشرب كلّ صباح شايًا بمذاق البَصل، وتظلُّ تطيرُ مِن يديه كلُّ نساء الأرض؟، هل كانت ملاك محقةً؟ هل فعلًا موتُه أفضلُ من حياته؟

دارت كلُّ هذه الأسئلة كما الرّحى، بلا هوادةٍ، داخلَ رأسه. لكنّه لا يملك لها جوابًا… أو ربما لا يُريد أن يُجيب.