إلى قرطبة.. «مشاعر زائرة»

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، رميصاء وعليت

عندما وصلتُ قرطبة، أسرعتُ بخطواتي نحو مسجدها الكبير، متخطية أزقةً وشوارع ضاربة جذورها في عمق التاريخ، تحمل بين جنباتها عبق حقبة ذهبيّة كان فيها الإسلام والعلم يكوِّنانِ نسيجًا متماسكًا في الأندلس. كانت لحظة الوصول أشبه بلقاء عاشقيْن بعد طول غياب؛ لحظة امتزج فيها الماضي بالحاضر، فانحدرت دمعة من عيني، واحتبست غصّة في حلقي بينما أتأمل مئذنة المسجد وساحاته الخضراء. لم يكن هذا المكان مجرد مسجد، بل رمزًا شامخًا لحضارة سادت حينما اتحد العلم والدين في أروع تجليات الإنسانيّة.

عند دخولي المسجدَ، شعرتُ كأنّ التاريخ يُبعث من كلِّ زاوية وركن؛ هنا يتحدث الإسلام، يروي عظاته التي قدمت للعالم العلوم والفنون والفكر. لم تكن الأعمدة مجرد أحجار تحمل سقفًا، ولا الزخارف مجرد نقوش للزينة؛ بل شعرت أنني أسافر عبر ألفِ عام، حيث أخذتني مخيلتي نحوَ مشاهد صلاةٍ تتسم بالصفوف المنتظمة، وحلقات علم تزدحم بالنقاشات الثرية، وزوايا تعلو فيها التكبيرات والتهليلات. خيّل إليّ أنني أسمع أصوات العلماء وهم يتجادلون حول الطب والفلسفة والكيمياء والزراعة، وكأن تلك الأصوات ما زالت تتردَّدُ أصداؤها بين جدران المسجد، لتخبرَ العالم أنّ الإسلام كان يوماً منارة للمعرفة.

رأيتُ في مخيلتي رجالاً بعمائمهم وجلابيبهم يسيرون بين الأعمدة بوقار، هذا يسرعُ إلى دكانه، وذاك يعتني ببستانه، وجوههم مشعّة بالحكمة والرضا. وعلى الجانب الآخر، كانت النساء يجتمعن بشغف لتبادل العلم والمعرفة، بينما يلهو الأطفال في جَنَبات المكان، فتصدح صيحاتهم كأنّها لحن أندلسي عذب يوقظ الذكريات. أما في المحراب، فتخيلتُ «الخليفة» يدخلُ من الباب الأيمن بخطوات مهيبة، متجهًا إلى الصفوف الأولى ليؤمَّ المصلين، والجند يسيرون بجواره يحملون رايات الأمّة، بقلوب خاشعة لله.

لم يكن هذا المسجد مجرد مكان للعبادة، بل كان عالمًا بحد ذاته، شاهدًا على زمنٍ اجتمعت فيه روح الفتوحات مع العقل والبحث العلميّ، لتجعل من الأندلس أعظم مراكز المعرفة في العالم. حملت تلك الحقبة راياتها شخصيات مثل ابن رشد والزهراوي وابن طفيل، الذين أضاءت إنجازاتهم دروب العالم وأثرت أوروبا والإنسانية جمعاء.

لم أستطع مقاومة رغبتي بالجلوس، فجلستُ متربعةً على الأرض، شاعرةً بأنني في حضرة تاريخ عظيم، وكأنني أسجد بقلبي لله شكرًا في مكانٍ تعاقب فيه سجود العظماء. لكن، وبينما كنت غارقة في تأملاتي، اقترب مني أحد الموظفين طالبًا مني الوقوف، وكأنه أراد أن يقول: «لم يَعُدْ هنا مكانٌ لهذه المشاعر التي أضعتموها بأيديكم»، شعرت وكأنّني أجلس أمام فتوى ابن حزم، وأستمع إلى تفسير القرطبي، وأرى ابن رشد غارقًا في فلسفته، وأشاهد الزهراوي يعلّم الطب، وابن طفيل يسردُ قصّة «حي بن يقظان»، والغافقي يتفقد الحصون بخيوله وجنوده. في تلك اللحظة، خيّل إليَّ أن روح عبد الرحمن الداخل تحلق في أرجاء المسجد مثل صقر يبعث مجده من جديد.

تمنيت لو أستطيع احتضان أعمدة هذا المكان علَّها تطفئ نار شوقي، أو تخفِّف وطأة ألم الفراق. شعرت وكأنني أقف على أعتاب تاريخٍ يصعب أن يعود، لكنه ترك بصمة خالدة في قلوبنا. مسجد قرطبة الكبير يروي حكاية أمة عظيمة كانت يومًا ملء الأرض علمًا وحكمة، ومصدر نورٍ أضاء العالم.