وَطَني حقيبة، وأنا مُسافِر!

 

أمس، في الرابِعة فجرًا قرّرتُ أن أسافِر. حَزمتُ نفسي، وخرَجتُ من البيت. المَطار يبعُدُ ثلاث خطوات عَن المَنزل، مسؤول الجَمارك مستغرقٌ في النّوم، ختَمتُ نَفسي، ووضعتُ “اللّيبل” على جَبيني، وسرتُ وحيدًا إلى الطائِرة. المُسافرون لم يَعْتادوا رؤيةَ حقيبةٍ تَمشي وحدَها، هذه مشكلتهم بكلّ الأحوال.

في مستودع الحَقائِب تكوّمت في زاوية شِبْهِ مَخْفيّة؛ ربّما لأحاول النّوم قليلًا بعدَ أن طرحتُ التّحيّة بستّ لغات ولم يردّ أحد، كأنّني الحقيبة الوحيدة التي تتكلّم، لا يُهم، الحَقائِب ليست فُضوليّة كالبَشر.

أقلعتْ الطائِرة، وطلب الطيّار من المُسافرين ربطَ الأحزِمة، مددتُ يدي لأنفّذ ذلك فلم أجِدْ حِزامًا، وتذكّرتُ أنّني حقيبة وهذا أمر للبشر المُسافرين وليسَ لنا مَعْشَرَ الحَقائِب، ثمّ ومع دُوار الإقلاع الأوّل تذكّرتُ ما قالَتْهُ لي صَديقة قرأتْ كفّي ذاتَ يوم: ستَنجو من حادِث مُميت، ولن يَكون بريًا. انتفضَ جلدي\ القُماش، وأحسستُ بقشعريرةٍ في الفتحةِ العلويّة منّي، لستُ مستعدًا لمغامرةٍ كهذه، صلّيتُ لكبيرِ الحقائِب أنْ لا يَحدث شَيءْ، رغمَ تأرجُحِ إيماني بِه.

الحَقائِب لا تَجوع، ولا تَعطش، ولا تَحتاج مضيفةً طويلةَ الأظافِرِ، أنيقةَ المظهَرِ بشكلٍ ملائِكيّ، هذا تشبيهٌ ضعيفٌ متوارثٌ لا طائِل من تِكاره ولا مِناص منه في الوَقت ذاتِه. الحَقائِب لا تُزعج أحدًا، فقط تتكوّم في المخزن الخلفيّ للطائِرة بلا حَركة، ولكنّني حقيبة غريبة الأطوار، أنا أتكلّم وأكتب، أنظّر لأفلاطون وهيجل ونيتشه بشكل جيّد ومتناقض، أعارِض درويش ربّما لأنّني حقيبة، وأنتَصر لهذا الجِنس الجَمادي: “وطَني حقيبةٌ، وأنا مسافِرْ”، يُستفزّ درويش، وكغيره مِن البشر المعتدّين بجنسهم البَشريِّ لا يُعيرني أيّ اهتمام، رغم طيبته الواضِحة. يااه، تخيّلت أنّه ربّما يسافر الآنَ معنا في الطائِرة ذاتِها، وأنّ حقيبَتَهُ حَرّضَتْ الحقائِبَ الأخرى على عَدَمِ الحَديث مَعي، ما هذه الحَماقة!، الحقائِب لا تتكلّم!.

الرّحلة لم تَكن طويلة مع بَعض الخَيالات الجيّدة لتمْضِية الوَقت، الطائِرة تلامِس أرضيّة المَطار، ونبوءة الصّديقة قارئَة اليَدين لم تتحقّق، لحُسْنِ الحظّ أو سوئِه، المُسافرون يمشونَ وحدهم، الحَقائِب تتكوّم على شريط متحرّك للفَحص، وأنا أسيرُ وَحدي بين الطائِرات، لا أبَ لي ليأخُذَنِي مَعَهُ إلى الفُندق، ولستُ أحمل فيّ أيّ أشياءٍ لأحد، لا مُشكلة، من الجيّد أن تجرّب الحقائِب السّفر وحدها!.

في الممرّ الأخير للمَطار، انتبه لي موظّف الجَمارك، تَبِعَني، وظنّ أنّني انْزَلَقْتُ من أحد المُسافرين، فحصَ “اللّيبل” الموضوعَ على جبيني، ولم يَستطع أن يُحدّد من أيّ دولة كنتُ قادمًا، كما لم يستَمِعْ لي، وحلقي ينفَطر من الصّراخ: إنّني من “هُناك”، “هُناك” حيثُ تهربُ الحقائِب من أصحابِها وتواجِهُ مَصيرَها وحدها، “هُناك” الشّرق المُمْعِنُ في جَنوبيّته، “هُناك” زمنُ الأوطانِ المعلّبة والشّوارع التي تُشبه آلاتِ تقطيع التّونا، لم يَسمع أيّ شيء، ووضعني في غرفة الحَقائِب المَفقودة: حَقيبةٌ ضائِعة تُحال للإتلاف بعدَ ثلاثة أشهر.

 

مهنّد ذويب، الرّباط