صديقي علي!

 

علي صديقي في المدرسة، مرت أيام لم أره في حجرة الدّرس، كنا دومًا نعاقب لعدم إنجازنا للتمارين، وها أنا اليوم أعاقب وحدي، بضع ضربات علي يدين اعتادتا ملمس العصى، والعديد من عبارات التّهكم و التبخيس في عرض مسرحي يتكرر كل يوم، في الحقيقة أنا لا أنسى تلك التمارين، بل و أنجزها أحايين عدة، وأحايين أتناسى فقط حتى لا يعاقب صديقي لوحده.. فعلي لا يستطيع إنجاز التمارين، بل وحتى لا أعجب لماذا هو غائب هذه الأيام.

علي، هو مثال الكثير من أبناء المنطقة، ترمي بهم الحياة إلى العمل وسط الجبال، وفي قبور عميقة مظلمة، وكثيرًا ما تحن الجبال على حالهم وتنحني احترامًا لهم ولمآسيهم وأوجاعهم.

لا زلت أذكر عدما أخبرني أنّ الحياة قاسية جدًا، وأن أمله في العيش ضئيل، مثلما لا زلت أذكر شعوره عندما جاءه أخ جديد، فقد تألم لمصيره المظلم كما تألم لمصير باقي إخوته الخمسة. أظن أن أباه لم يعد قادرًا على العمل، كما أظن أن انقطاعه التام عن الدراسة بات وشيكًا، لربما قد يعني هذا تحملي عتاب المعلم وحدي، بل لربما قد يعني هذا تحمل أعباء أسرته لوحده.

لصديقي علي نظرات مليئة بالحزن و الآلام، كثيرًا ما يشرد وأنا أحادثه، وكثيرا ما يومئ علي بوجهه موهمًا إياي أنه يتابع كل ما أقول، بل وحتى تخدعني ابتسامته مرات عدة وأعتقد أن نكاتي تخفف ما به من آلام، ولكن خيباته أكبر بكثير . فمن الصعب أن يولد المرء فقيرًا ومن الأصعب أن يكون السبيل الوحيد لذلك قلب الجبل وأكياس فحم تباع بدراهم قليلة.

قلقي أخذني إلى المكان حيث يعمل، أو بالأحرى حيث يموت، سألت العمال هناك عنه فأجابني رجل في الستينيات من عمره والسواد يغطي وجهه وكل ملابسه، وأخبرني أنّ علي يوجد الآن في قاع الحفرة يقوم بملء الأكياس بأحجار الفحم، وأنّ مدة تواجده هناك قاربت الخمس ساعات، انتظرت ساعة أخرى ليقوم العمال بسحبه بحبل رديء وقلق متواصل، اندهش لرؤيتي وسط العمال، وضع خيباته من على ظهره ثم اقترب مني محاولًا نفض الغبار والسواد من على ملابسه ووجهه، هو يعلم أنّي لطالما خفت من فكرة أنّ جسد الإنسان مظلم من الداخل، لدى هو لم يرد أن أخاف منه كونه كان مظلما من الخارج أيضًا .. أخبرني أن تواجدي هنا خطر عليّ، وأن ما سأراه من مشاهد القهر وظلم الحياة سيؤثر في نفسيتي وأفكاري، حاول أن يبعدني و يطمئنني بأنه سيعود قريبًا للدّراسة، ولكن نبرة صوته توحي بعكس ذلك تمامًا، كانت السماء على وشك أن تمطر، حاولت إقناعه ألا يعمل في هذا اليوم، ولكنّه استسلم لإرثٍ تركه له أبوه، أبوه الذي أضحى طاعنًا في السّن ومريضا بـ”السيليكوز” الذي أصابه على مستوى التنفس جراء العمل في آبار الفحم، استسلم لمصير يأبى أن يورثه لأبنائه، بل ويعدني أنّه لن يكون له أبناء مادام الفحم هو كسرة الخبز التي يتناولها، مسح دمعة نزلت على خدي ثم انصرف إلى باطن الأرض، غادرت المكان و صليت طوال الطريق ألا يصيبه أي مكروه بسبب ذلك ، فالعمل في ” الساندريات” يزداد صعوبة و المطر يتساقط، بل وحتى تتساقط أرواح شبابنا معه كأوراق الخريف.

هي دريهمات قليلة فقط يجنيها عمال هذه الآبار، بل وحتى يتعرضون للاستغلال من طرف أباطرة هذا القطاع، الوداع شعارهم الأبدي، وصديقي يودعني كل مرة، فهو قد فهم اللعبة، كثيرًا ما يوصيني بالاجتهاد في الدّراسة، وكثيرًا ما يلعن حظه الذي رماه بعيدًا عن حلمه، كان يحلم أن يصبح طبيبًا، كم كانت تأسره تلك البذلة البيضاء وفكرة أن يحبك الناس ويغرقونك بالأدعية، لكن السواد لازمه منذ الصغر، لون دراجته وسترته ولون حظه العاثر، كان يأمل أن يتغيّر الحال على ما هو عليه، وأن تحل جميع المشاكل داخل البيت، والتي كان سببها الفقر وحده، أنا متأكد أنّ صديقي لم يأكل شيئًا طوال اليوم، يا ليتني أحضرت له شيئا معي، متأكد أيضًا أنه سيعود خاوي الوفاض في هذا اليوم الماطر، كم سيكون محرجًا أمام نظرات أمه وإخوته، فهو دائمًا يعدهم بغد أفضل، دائمًا ما يجبر خاطر والده الذي أنهاه معيلًا لأسرة كبيرة وحاملًا لهموم ثقيلة، كثيرًا ما يسألني عن السبب، عن الجهة التي سيحملها هذا القهر، أهو القدر أم المجتمع أم أبوه أم حتّى نفسه التي قبلت بهذا المصير.

في طريق العودة شممت رائحة غريبة جدًا، كأنّها رائحة انفصال الجسد عن الروح، لم أتمالك نفسي ولا حتّى مخاوفي، وعدت مسرعًا إلى مكان عمل صديقي علي، هي ثوان فقط حتى أدركت أن صديقي لم يُحرم من طفولته فقط، ولم يحرم من شبابه فقط بل حرم من حياته كلها، كلماته لا زلت تتردد إلى مسامعي وصوتي أبى الخروج كأنه استقر في الفقرة السابعة لعنق زرافة، صديقي حمل خيباته على ظهره، ظهر انكسر بثقل الحمل، صديقي حمل أحلامه في قلبه، قلب وهبه لحفرة في جبل، والجبل يود لو ينحني له احترامًا.

فدوى العزيزي،  جرادة