لَم تُصب الرّصاصة فراس تلكَ اللّيلة!

(1)
كانَتْ شامة امرأةً تشبه الحلم. لا كلماتَ في لغتنا الخجولة لها القدرةُ على وصفِ جمالٍ كجمالِها. ورغمَ نصيبِها من الجمال وطيبة القلب، إلا أنّها كانت امرأةً تعيسةَ الحظ؛ إذ توفّي زوجُها عبد الله ولم يترك لها شيئًا تستعينُ به على صعوبةِ الحياةِ، وغلاءِ المعيشة لتربّي أبناءها الثلاثة، كانت تقضي اليومَ كلَّهُ بين وظيفةٍ وأخرى، وقد رفضت عددًا كبيرًا من الخطاب وفاءً لذكرى الرجل الذي أحبّت، وخوفًا على أبنائِها من الذّل والمهانة. كانت شامة تعمَلُ مساعدةً منزليةً لدى مصمِّمةِ أزياءٍ مشهورة، وقد كانت هذه الأخيرةُ مُلِمّة بقصّةِ شامة، وبالمآسي التي تجرّعتها هذه المرأةُ المسكينة، تتردَّدُ قصّتُها على كلّ لسان ويُضرَبُ بها المثل في الصّبر على الشّدائد، والكرامَةِ وعِزّة النفس، فبالرغم من الحاجةِ المُلحّة للمالِ لم تكُن شامة تمُدّ يدها للناس ولا تقبل الصدقات، كانت امرأةً طيبّة بسيطةَ الفكر، وما كان بإمكانِها أنْ تصمُدَ أكثر مما صمَدَتْ قبل أن تقع في فخٍ من الفخاخِ العديدة التي نُصِبت لها. كان بشير رجلًا غنيًا لدرجةٍ لا يكادُ يتصوَّرُها العقل، يملِكُ من المالِ ما يُمكِّنه من شراءِ وقتِ النّاس وقناعاتِهم، وما يجعلهم يتخلّونَ عن كل ما يؤمنون به، أرادها بكلِّ جوارحه كما لم يُرِدْ امرأةً غيرها، وقد أوجَعَهُ رفضُها له، لكنّهُ كان مصمّمًا على جعلِها تخضَعُ لرغباتِهِ وتستسلم له بأيّة طريقةٍ ممكِنة.
(2)
كان أخي فراس شابًا في مقتبل العمر، يهوى العزفَ على آلةِ العودِ الخاصّةِ به كل ليلة، بينما تكونُ مدينة تطوان كُلّها تستسلمُ لنومٍ عميق. كنتُ على درايةٍ كاملةٍ بتعلّقِ فراسٍ بشامة، وقد راقبت في تَعَجُّبٍ كيف كان أخي يختلف كثيرًا عن الرجلِ صعب المراسِ وعنيد المزاجِ الذي نعرفه، حينَ يكونُ جانِبَها، ما كنتُ أجهَلُهُ حينها هو أنّ شامة كانت تبادلُ أخي حبّه الجنونيّ سرًا. توسّطت شامة لفراس عند بشير ليجدَ له عملاً في أحدى شركاتِهِ، ولسنواتٍ مديدةٍ عاشا من خيراتِ هذا الرجل الغريب الذي كان على أتمّ الاستعدادِ ليهَبَ كلّ ما يملِكُ لأجلِ شامة، كان بشير يجهَلُ أيّ شيءٍ عن ماهيّةِ العلاقةِ التي تربِطُ فراس بشامة، فكان يعطفُ عليه، واتّخذه ساعِدَهُ الأيمن في أعمالِهِ السرية. لا أزال أذكرُ كيف كان أخي فراس ونحن أطفال، تغلِبُ على طيبتِهِ نزعةٌ أنانيةٌ من حينٍ لآخر، لا يحبّ المشاركةَ في أيّ شيء، هذه ملاحظة للسّياق بكل الأحوال.

استيقظتُ يومًا على صوتِ نحيبِ والدتي في بهو بيتنا، اهتزَّ قلبي لمنظرِها وهي مُسجاةٌ على أرضيّةِ بيتنا تصرخُ بقوة، كان قد بلغَها خبَرُ إصابةِ أخي بطلقةٍ ناريّةٍ بعد هجومٍ مسلّحٍ من طرفِ أشخاصٍ مجهولين بينما كان عائدًا من العمل. كان لسانُ أمّي يومَها يلهَجُ بالدعاء، وما إنْ وصلْنا إلى المستشفى حتّى انهالَتْ أمّي بصبيبٍ من الأسئلة على شامة التي كانت غارقةً في الدّماء والدّموع. لم تستطِع هذه الأخيرةُ أن تنطِقَ بكلمةٍ أو تشرَحَ لنا سبَبَ تواجُدِها في المستشفى رفقةَ فراس، وفي خِضَمِّ الرّعب الذي انتابنا جميعًا وقتَها لاحظنا ملامِحَ التّعب وانتفاخَ البطنِ الذي لا تُخطِئُهُ العينُ، واتّضحَ أنّ شامة تحملُ في بطنِها كلّ ما تبقّى لنا من أخي فراس الذي كان على شَفى حفرةٍ من المَوت. أفصحَتْ لنا شامة عن كلّ ما حَصَلَ منذ التقتْ فراس لأوّلِ مرّة، وقَرّرا الزواجَ سِرًا إلى اليومِ الذي قَرَّر فيه أخي فراس أن يخبِرَ بشيرًا بزواجِهِ من شامة، وانتظارِهِما لطفل.

(3)
اليوم، وأنا مقبلةٌ على مرحلةٍ جديدةٍ من حياتي، وجدتُني أستحضِرُ قصّة فراس وشامة، والحب العاصِفِ الذي كادَ يدمرهما. صحيحٌ أنّ أخي فراس قد نجا من الموت بأعجوبةٍ بعد أنْ جازَفَ بحياتِه وكلّ ما يملك من أجل حبِ العمر، لكنّ الحياة لا تتوقّفُ على التضحياتِ الجسيمة، وأساطيرِ الحبّ الجميلة، وهذا ما سيدركُهُ فراس بعد أن يهاجِرَ رفقةَ أسرته الصّغيرةِ للديارِ الإيطاليّة، حيث سينهارُ زواجُهُ و ينتهي الحب الكبير الذي عاشَهُ رفقة شامة التي حَنَّتْ للأيامِ الخوالي، و تركت فراس وابنهما، لتعودَ للعيشِ رفقةَ أبنائها في المغرب، لم يعد فراس بعد طلاقِهِ من شامة إلى البلد خوفًا من كلامِ الناس وألسنتهم اللاذعة، ولم يمكث طويلًا عند مجيئِهِ بسبب محاولاتِ أمّي المتكرّرة لتزويجِه.

ظلّت أمي تعامل شامة كما لو كانت ابنةً لها، وظلّ أخي حبيسَ حبٍ يتيم، وذكرياتٍ قد أكلَ عليها الدّهر وشرِب، لم تُصِب الرّصاصة فراس تلك اللّيلة، بل كأنّها أصابت حُبّهما في مقتل. هكذا كنتُ أقول.

 

آية العنزوق