وسيم التّاقي، خاص بــ”مجلّة أفانين”
كانت الفراشات تحوم حول سدرة النّبق، تبعها جريًا وهو يحمل غصنًا من سدرة الشّوك، كان الحزن باديًا على وجهه، حاجبان معقوفان وشفتان متدلّيتان ونظرةٌ واهنةٌ، جرى وراءها لدقائق.. لكنّه لم يفلح في التقاط واحدةٍ منها.
– “كنتُ أريد أن أعانقها، فقط” ردَّ قائلاً، بعدما سألته أمّه وهي تغسل رجليه بماءٍ باردٍ، تلقفه إناءٌ من خيوط الشّتاء.
– “وهل الفراشاتُ تُعانَق؟” سألتِ الأمُّ.
– “وهل نعرِفُ؟ رُبّما تريدُ ذلك! لمْ نُحاولْ يومًا الانصاتَ إليها!
تحومُ حولي في المدرسة دائمًا، واليوم جاءتني وأنا أجمع حبَّات النَّبق من السّدرة التي تَقرب بيتنا.. كم دارتْ حولي، لكنّني لم أتمكّن من إمساكها، فتَأسَّفتُ لها.”
– “ماذا فعلتَ بعدها؟”
– صحتُ وقلتُ: “المرّةُ القادمة أبطئي من سرعة جناحيكِ!”
نفضتُ عن رأسي غبارَ ما علقَ بي من السّدرة، واتَّجهتُ إلى هنا، غيرَ أنّ التَّعبَ الذي أَودعْتُهُ في جمعِ حبَّات النَّبق وَدَّعني إلى الأرض، وذهبَ بالحبَّات المجموعة في قميصي، ولمْ أَنعم بأكلها.
– “المرّة القادمة اصطَحبْ أخاكَ معكَ، وتَشاركا الجمعَ في إناءٍ”
فَرَغتْ من غسلِ رجليه، راحَ يمشي مسرعًا نحو غُرفته يبحثُ عن فوطةٍ يمسحُ بها ما ظلَّ عالقًا برجليه من ماءٍ.
فعلَ ذلكَ واتَّجهَ إلى حقيبته يبحثُ عن ملوّنةٍ كان قد أحضَرَها من مدرسته بعدما وجدها ملقاةً في سلّةٍ، اشترى صباغةً وفرشاةً، وجمَّع أوراقًا بيضاءَ من دفتر أخيه الذي يكبُره بسبع سنواتٍ، كان يقولُ في نفسه:
– “كم هو محظوظٌ أخي! يكتبُ بالألوان التي يُحبّ، وبقلمٍ أحمر اللون أيضاً! ويَدرُسُ اللغة الإنجليزية، والرّسمَ!، لمْ أصلْ بعد لتعلّم اللغة الإنجليزية، فما زلتُ في عامي الثّالث من المرحلة الإبتدائيّة، لكنّني سأَرسُم”.
أَلقى بِبصره إلى الورقة البيضاء السّاكنةِ فوق حصيرِ الأرضِ وبجانبها الملوّنةُ المقضوم جزء من أطرافها.
أردف: “سَأرسُمُ… لنْ أصلَ إلى مثل تلكَ التي أراها مُعلَّقة على جدران حجرتنا الدّراسية، لكنّني سَأخُطُّ شيئًا يُشبهني.. اممم، ولأحتفظَ بها على جدار غرفتي، لا…”
حكَّ بطرف الفرشاة العلويِّ رأسَه.
– “إنّها ليست غرفتي وحدي، إنها غُرفتي أنا وأخي”
ابتسمَ وقالَ: “لا مشكلة! سأُعلّقها على الجزء العلويّ من الجدار فوق سريري”
وضعَ الألْوانَ في الدوائر المفرغة للملوّنة.
– “أزرقٌ هنا، أحمرٌ هنا، أخضرٌ هنا، وأبيضٌ هنا”
وضعَ رأسَ الفُرشاة في اللّون الأزرق، وغمرَ به ربع الورقة العلويّ أُفقيًّا.
– “إنّها سماءٌ! لنْ أرسمَ عليها طيورًا، فالطُّيور لا تُمسَكُ لنضعها هناك، والفراشاتُ لم تُرِدْ أوَّل الصّباح أنْ تُمسَكَ، ولنْ أفعلَ هذا، إلاَّ بعد فلاحِ سدرتي في التقاط واحدةٍ منها.”
عادَ بالفرشاةِ نحو الملوّنة، بعدما خَلَّصَ رأسَها مِمَّا علِق بها من اللون الأزرقِ.
– “الآن، اللّون الأحمر.. ماذا سنفعلُ به؟ اااه وُرُودًا!”.
رسمَ بضع كُويْراتٍ أسفل الورقةِ، مُتراصَّةٍ إلى بعضها دائريًّا، تتوسّطها نقطة صغيرةٌ، أطالَ النّظرَ إليها وقالَ:
– “أظُنها لا تُشبهُ الوُرود التي أراها في حقلنا! ولا الوُرود التي أراها في صُوَر الكتاب المدرسيّ! لكنْ لا ضيرَ في ذلك، رُبّما في جزءٍ آخر من هذا العالم وردةٌ تُشْبه وردتي هذه.”
غطسَ رأسَ الفرشاةِ مرّةً أخرى في كأس ماءٍ بجانبه ليُخَلِّصَ عنه اللّون الأحمر.
– “والآن، اللّون الأخضر”
أَمعنَ النّظر إلى الورقةِ أمامه، رأى السَّماء والوُرود الحمراء.
– “الوُرود ينقصها شيءٌ، إنَّها الأغصانُ!”
رَسمَ خُطوطًا أفقيّةً رقيقةً تحت كلّ وردةٍ وقال:
– “كم هي أوراقُ الورودِ نرجسيَّةٌ، وكم هي الأغصانُ ذليلةٌ! تَحمِلُ الأوراقَ العمر كلّه! لماذا لا تَحملُ الأوراقُ الأغصان؟ يا إلهي! فاتَني فعل هذا! سأفعله في رسمتي القادمة لأُنصفَ الأغصان”
– “والآن، اللون الأبيض.
ما الذي نَفعلُ به؟ لم تُحدّثنا يومًا أُستاذتنا عن نفعهِ!”
غَمرَ باللّون رأسَ الفرشاةِ، وراحَ ينظرُ إليه.
– “أُمِّي تُرَدِّدُ دائمًا أنَّ أَبي قلبه أبيض، وأنّه يُحبُّنا وإنْ صرَخَ أَو احتَجَّ أَوْ غابَ لأَيَّامٍ أحيانًا دُونَما اتِّصالٍ، سَمعتُها ذاتَ مرَّةٍ تُحادِثُ خالتي وتقولُ لها إنَّ جارتنا قلبها أبيض وإن اغتابتْ أو قاطعتنا وخاصَمَتْنا أحيانًا، وقالتْ لنا أُستاذتُنا ذات مَرَّةٍ إنَّ أصحاب القلوبِ البيضاء يُحبُّهم الله ويحبّهم كلّ من في الدّنيا، ولا شكَّ في أنّ الفراشات تُحبّهم أيضًا!”
مَلْمَلَ الفرشاةَ بأصابعه وقال:
_ “رُبَّما جُعِلَ اللونُ الأبيض لِنرسُمَ به قلوبًا بيضاء، قلوب من يُحبهم الله وكلّ من في الدنيا. سأرسمُ به قلْب أبي وقلب جارتنا.”
بَحَثَ عن قلم رصاصٍ بداخل مِحفظته، خطَّ به على الورقة البيضاء قَلْبَين بجانبٍ مُعوَّج، حمل الفرشاة وصبغ بالأبيض وسطيهما.
رَفَعَ الورقةَ إلى مستوى نظره وابتسمَ لها.
حَمَلَها وألصقها على جانبٍ من الجدار فوقَ سريره وقال:
– “سَأَعُودُ لِأَرسمَ عليها قلبًا أبيضَ، كُلَّما لاقيتُ ذا قلبٍ أبيض”
Afanine
مجلة أفانين: هي منصّة إلكترونيّة حرّة، وشاملة، ومتنوّعة، تديرها جمعيّة كتّاب الزيتون والمعهد اللغوي الأمريكي بالدار البيضاء، وتضع على عاتِقها أن تفتحَ نافذةً، للكتّاب والفنّانين في المغرب، نحو آفاق الإبداع. تنشر المجلة أعمالًا أدبية وفنية للكتاب والفنانين الشّباب بالمغرب، بالإضافة إلى مقابلات، وبروفيلات، وفرص، وصور فوتغرافية، وغير ذلك. تروم المجلة تسليط الضّوء على إبداعات الكتاب والفنانين الصّاعدين بالمغرب.