الهزيمة.. فراغٌ كبير في الصّدر

خاص بـــ«مجلّة أفانين»، مهنّد ذويب

إنّ ليالي الصّيف أطول من ليالي الشّتاء. هذه حقيقةٌ تنافي الفيزيائِيّ، وتستنكرها الأرصادُ الجويّة؛ لكنّها حقيقةٌ مطلقة عند مَنْ يُشَخْصِنُ المطر والرّيح والغيوم، فلَياليهِ الشّتْويّة غيرُ موحِشة ولا يَكونُ فيها وحيدًا كاللّيالي العارية في الصّيف، لكن.. وفي غيابِ مظاهر الشّتاء هذا العام يبدو اللّيل صيفًا صحراويًا قاسيًا أيضًا.. بلا فرقٍ واضح.

في اللّيل أنتَ مسرحٌ تجريبيّ، حين تقتنعُ بصحة الفكرة التي قيلت عن مدى عُمقِ البساطة، فتجدُ أنّ أسئلتك تصبحُ أبسط وأعمق، كأن تسألَ نفسك مثلًا، جادًا تمامًا، ماذا أفعلُ هنا؟، أو مَن أنا؟ أو كيفَ وصلتُ؟. كأنّك تفقدُ معارِفَكَ ويقينيّاتِك وأشياءك الأساسيّة، كأنّ عُرْيَ السّماء من الغيومِ هو عُريك أيضًا. الشّتاءُ سَتّار، يُداري، ويُساعِدُ على التّمويه، كأنْ تبكي في يومٍ ماطرٍ جدًا فلا يميّز أحدٌ إطلاقًا حبّات المطر من دموعِك، هذا تشبيه بليغ رغم فرطِ تكراره وتَكَرُّرِه… الأسئلة البسيطة والتي تبدو في ظاهِرها مضحِكة لو قلتها في النّهار، تعمّق لديك الشّعور بالهزيمة والضّياع، والهزيمةُ أكثر المشاعِرِ إيلامًا في الوجودِ كُلّه: «وَسِوى الرّومِ خَلفَ ظَهرِكَ رُومٌ»، أو أن تُهزمَ من الدّاخل، أو أنْ تستنِد إلى الخواء\ الفراغ. الهزيمةُ فراغٌ كبير واسِعٌ في الصّدر لا يمتلئ ولا يٌردَمُ ولا يتوقّفُ عن «الجَوْحِ» المسموع. والهزيمةُ لحظةٌ تُخلّدُ عمرًا، شيءٌ بلا شفاء وبآثارٍ كبيرة ومتراكمة، والهَزيمةُ تتوالد.

في اللّيالي العارية تسترجِعُ حياتَك بالتّفصيل، وتبدو بعضُ الأشياءِ أكثر ألمًا وبعضها الآخرُ أقلُّ ألمًا، وتُعيدُ تُحاوِلُ تقييم نفسِك وأفعالِك وما اتّخذتَ من خطواتٍ وقرارات، تقييماتُ عاجِزٍ وفائت، لا تُفيد ولا هيَ تستقِرُّ أصلًا على رأيٍ واحِد، وإنّ أكثر ما يُمكن أن تفعله هو أن تزيدَ شبرًا إضافيًا في حُفرة «الانهزام الكُبرى» تِلك.

أكتُبُ هذا ربّما لأرحّبَ بدخولِ فَصْلِ العٌبور: الخريفْ، حيثُ سنمشي عُراة إلى ينابيع الغيومِ، وإلى صوتِ الرّيح الذي يُبعدُ الأسئلة ويجعلُ اللّيل أقصَرْ. هل «صوتُ اللّيلِ أزرق» إلا في الشّتاء؟!