البالوكورية

(1)

       أنوار خافتة ينبعث وميضها في الدروب، وشوشة على قارعة الطريق، وقع خُطى متسارعة بالأزقّة، غبار يتبخر مع ضوء القمر مجسدًا أشباحًا مُدهشة تحرك وجدان الغرباء، أنفاس ساخنة داخل البيوت، هذا يوم من الأيام الفريدة، لا يتكرر إلا مرّة كلّ سنة، نتائج البكالوريا في طور الإعلان عنها، رعشة تزعزع كيان خشب الكُّوَّاة والنوافذ، رائحة روث البهائم تجول تجوال التّائه بمدينةٍ عتيقة، طقطقات على الأبواب تليها زغاريدُ بعض النّساء القرويات، تصيح إحداهن:

ـ اسمعوا وعُوا، ابنتي رجاء نجحت في البالوكورية، ومن لم تسمع فعليها إزالة العجين من أذنيها.

    حتى كلمة البكالوريا لا تنطقها جيدًا، المهم أنْ تتبجح على صويحباتها، فرح لنجاحها بعضهن، ولَطمت الخدود أخريات، ومع ذلك سيحضرن للحفل الذي سيقام غدًا، لتشتعل النار في فتيل النّميمة وتحل حُزَم الحقد والحسد، انبرى مولاي عبو من فراشه فزعًا: “يجب أن أرى نتيجة تلك الخرقة البالية”، نهض منبهرًا يمشي بخطوات متسارعة:

ـ يا رب أسألك لها الرّسوب، لا أريد لابنتي أنْ تنجح وتذهب بعيدًا عنّي، مَن يدري أنّ كلام خالد بن عبد الرحمن صادقًا، فهو جدير بالثقة، أنّ الفتيات يصرن بالجامعة محترفات بِغاء، يغيّرن جلودهن كما الأفاعي من مكان لآخر، ويبتن في أحضان الرّجال، وإنْ نجحت لن أتركها أبدًا تتجاوز عتبة الدّوار، لا يليق برجل وقور مثلي أن تكون له ابنة يتهاوى عليها الذّباب من كل صوب، قطعًا، أبدًا !

    يسير بالدّروب سير المجنون، تتسارع دقات قلبه المتهالك كقطعة حديد صدئة تعصف بها الرياح، يختفي في الظلام الحالك، ثم يظهر ثانية، يرفع سروال “القندريسة” ويغطي قب جلبابه تارة، ويرفعه تارة أخرى، كانت وجهته نحو صاحب قاعة الإنترنيت.

ـ العربي وا العربي، وا السيد العربي؟

ـ أهلًا مولاي عبو، ما هذه الوقت التي أنت آت فيه؟

ـ ألا تعلم أنّ اليوم يوم إعلان النّتائج، جزاك المولى إنّي أريد الاطّلاع على نتيجة ابنتي !

     فتح العربي قاعة الإنترنيت، انتشل الكثير من الذباب من مكانه فصار يحوم حول المصابيح، أشعل الحاسوب، مولاي عبو يهش على الذباب “اذهب الله يحرق جدّك…إذهب”.

     صبيب الإنترنيت ضعيف حدّ الموت، انبرى الخيط الأبيض من الخيط الأسود، صاحت الدّيكة، نامت الكلاب، خطى أغنام مستيقظة، السندباد يغسل وجهه، والقراصنة تكاد سفينتهم ترتطم بالحجر، ابتسامة علت وجه العربي، علامة استفهام على مُحيّا مولاي عبو.

ـ لا تقل لي إنّها نجحت، بربك لا تقلها !

     أطفئ الحاسوب، وتطَيَّر بالخبر، صبَّح على النّحس،  خرج ولم يودّعه حتى، ضرب الحائط بقدمه حتى سقط منه الكثير من التراب، مضى وهو يصرخ: “والله لا قرات، و الله مانخليها تقرا، قسمًا! أبدًا”،  الفتيان يضحكون عليه بشدّة، تطل بعضهن من ثقوب الجدران ويتحسسن صوت الأقدام، فتسمع إحداهن تقول لجارتها بتهكم بالغ:

ـ تقريبًا يا لالا فاطمة إنّ مولاي عبّو سكنه الجن… مسكين!

ـ الله يرد بك للطريق، فهو لا يريد أن تدخل ابنته إلى الجامعة.

(2)

    طوال النّهار، ومولاي عبو يجول محتار البال، مرتعش البدن “لا أريد أن تكون ابنتي بائعة هوى، لا أريد، أبدًا!”، ترد عليه زوجته : “يا سيدي عبّو.. يا قرة عيني.. إنّهن يذهبن للدّراسة.. وليس لما يجول في خاطرك”، تجادلا بالتي هي أصعب وأعقد، لم يتوصّلا لحلّ نهائيّ، فقد علَّقَا المشكلة على حبل هش سَيُقطعُ دابره لا محالة.

    مساء اليوم الموالي، انطلقت الحفلة، كانت النساء قد اجتمعن كلهن ببيت واحد كي يقمن الدنيا بالموسيقى ولا يقعدنها، على شرف نجاح أبناء القرية وبناتها، كؤوس الشّاي في كل مكان، أحضرن المشروبات الغازية، أعددن الحلويات والمحليات، هيأن أنفسهن ببراعة وارتدين أحلى ما عندهن، يأكلن ويرقصن، يأكلن ويتكلمن، يأكلن ويملأن أكياسهن، يأكلن ويأكلن، اقتربت الصّحون من نهايتها، ترى إحداهن تخبئ في حقيبتها مشروبًا غازيًّا، فتقفز عليها باللّوم أخرى:

ـ الله يعطيك الجوع، منذ متى لم تشربي لمونادا؟

   بهجة لم تحضر لها زوجة مولاي عبّو، ولا حتّى ابنته، خسارة ! كانتا قد جلستا لبعضهما، الرأس على الرأس، شفق مولاي عبّو للمنظر وغاظه جدَّا، فحمل عصاه التي يرعى بها الغنم، ويهشم بها رؤوس الثّعالب والسِّحليات، ويصطاد بها أرواح الأفاعي والعقارب، بكل ما آتاه ربه من شجاعة وإقدام “لا فرحة.. لا بهجة.. اللهم إنّ هذا منكر”، كان يبدو كالمجنون، كمن هربت له الجِمال في الصحاري، اقتحم على أولئك الفرحين بنجاح أبنائهم الحفلة، اخترق بهجتهم وغرس شوكة التّشاؤم بقلوبهم، قفز بينهم يشير بعصاه في الأفق “ألا لعنة الله عليكم جميعًا.. ابتعدوا.. ابتعدوا.. تودّون إخراج الجميع عن الطريق السّوي”، انتفض الجميع، اختلفت الأرجل وسقط بعضهنّ أرضًا، وبعضهنّ على بعض.

      عيب أنْ يرى الرجل في البادية امرأة متبرجة أو متزينة، استمر عبّو في العتاب: “خالد لن يكذب.. أعرفه جيدًا.. تودون إرسال بناتنا ليحترفن البغاء.. لن يكون لكم ما أردتم. قسمًا! أبدًا”، بحركة سريعة أرسلت الراقصة “الباحاجية” قارورة زجاجية نحو رأسه، سقط على الطاولة بما فيها، غرست بعينه اليسرى قطعة حلوى وانخلع جلده عن فخده الأيمن إزاء انكباب غلاية الشّاي عليه، فلم يعلم من أين أتته الضّربة. جاء المقدّم راكبًا “التريبورتور” ورجلين من “المشاورية” ليتفقدوا ملابسات الحادث، دخلوا إلى المنزل، ودخلت معهم الرّاقصة “الباحاجية”، بدا على وجهه شحوب ورهبة لما رآه، بحيلة وبإزار أسود، جمعت الرّاقصة له ما تبقى من الحلوى، وقبل الخروج التفت وراءه، رجع مهرولًا، اندهشت لذلك فأصابها الجزع ونادت عليه، ثم قال:

ـ أنا آت فقد نسيت حلوى مغروسة في عين المعلم عبّو

 

يونس سعدلاوي. الريصاني

 

(الصّورة للصّحفيّة: LIZA FOREMAN، مراسلة BBC Travel)