كأنّ كلّ ألم العالم كان متجمّعًا في حلقها، تمنّتْ لو تتقيّؤهم جميعًا بدون استثناءٍ، لو تلفظهم في البالوعةِ ثمّ تغرقهم بالماء إلى الأبد. انتابها ككلّ مرّةٍ تأنيب الضّمير تجاه الفكرة، إنّهم كلّ حياتها.. رفعتْ رأسها نحو المرآة، وحدها مرآة الحمّام تعرفها جيّدًا وتعرف كلّ الدّموع التي بكتها على عجلٍ ثمّ مسحتْها كأنّ شيئًا لم يحدث. لقد كانت حياة صبورةً مثل الصّخرة. ولكنّ الصّخور أيضًا تتفتّت جرّاء عوامل الزّمن.
تسأل نفسها بصوتٍ أقرب إلى الهمس:
– ماذا أنا؟
هناك أسئلةٌ كثيرةٌ في هذا العالم تظلّ معلّقةً دون جوابٍ.. ليس ضروريًّا أن نفهم كلّ شيءٍ، بل لا يمكن أن نفهم كلّ شيء. كانت حياة دائمًا تطمئنّ لهذه الفكرة، ولكن ليس هذه المرّة! فمذاق الصّفعة لازال متوهّجًا فوق خدّها. لقد ضربها على الكورنيش وأمام النّاس. حينما كان عصام يضربها في المرّات السّابقة لم تكن تحسّ بشيءٍ تقريبًا.. كانت كمن به خدرٌ دائمٌ. كانت تقول أنّه زوجها ويحبّها وأنّه فقط لا يعرف كيف يحبّ.. كلّ رجال المدينة لا يعرفون كيف يحبّون. هكذا أقنعتْ نفسها لسنواتٍ طويلةٍ أنّ الحياة توجد فقط هنا في هذه البلدة وفي هذا البيت ومع عصام وكلّ ما عدا ذلك فَناءٌ.
هكذا بكلّ بساطةٍ قفزتْ تلك الفكرة المجنونة إلى رأسها، فخرجتْ مسرعةً من الحمّام، اتّجهتْ إلى غرفتها.. وعلى عجلٍ رمتْ على شعرها شالًا سميكًا لفّتْه مرّتين. ثم اجتازت باب البيت وكأنّها ذاهبةٌ إلى قدرٍ مغايرٍ.
– تاكسي!
ركبتْ سيّارة الأجرة ثم انطلقتْ بها.
– إلى “كلابونيطا”
– إنّها تمطر “آوتشما ينو” (تعني أختي بالأمازيغيّة) ثمّ إنّنا في عزّ ديسمبر !
دون أن تعير أيّ اهتمامٍ لجملته الأخيرة أجابته:
– قلت إلى “كلابونيطا”.. ثم إنّني أحبّ المطر.
راحت السيارة تطوي بها أزقّة المدينة التي بدت لها رماديّة على غير العادة. وحينما اقتربتْ من الوصول أوقفتْه قرب مصحّة “بادس”. أحبّتْ أن تكمل ما تبقى لها من المسافة مشيًا على الأقدام. كانت تريد أن تعدَّ الخطوات نحو البداية الجديدة. كم هو رهيبٌ أن تعرف كم تبقّى لك من مسافةٍ نحو أقدارك التّالية. سرى خدرٌ خفيفٌ في أسفل أقدامها، أحسّتْ أنّ كلّ المدينة التي تركتْها خلفها تترقّب في ذهولٍ.. ماذا ستفعل حياة؟ اجتازت كلّ الطّريق بخفّة ريشةٍ، إنّها عند الشّاطئ الآن.. كان بها دائمًا رغبةٌ في الصّراخ كلّما وقفتْ أمام البحر. لكنّها هذه المرّة لم تحسّ بأيّ شيءٍ من ذلك، كأنّ هدير الموج امتصّ الرّغبة وابتلعها في أحشائه. ولكنّها بالمقابل شعرتْ أنّها تنظر إلى البحر للمرّة الأولى في حياتها.. وكأنّها لم تره يومًا بهذا الإتّساع وهذه الرّهبة.. كان سعيدًا وحزينًا في آنٍ واحدٍ.. هذه المدينة حبلى بالأشياء وأضدادها، بل إنّ كلّ تفاصيلها نقيضٌ وضدٌّ..
سكت الموج فجأةً.. ابتعدتْ عنها كلّ الأصوات.. هدأ كلّ شيءٍ.. أغمضتْ عينيها ثمّ راحتْ تخلع عنها الملابس الكثيرة التي دُفنتْ فيها قطعةً بعد الأخرى.. كانت بذلك كأنّها تخلعهم عنها واحدًا بعد الآخر. الأب الذي غضب ليلة ميلادها فقط لأنها لمْ تكنْ ذكرًا، والأخ الذي كان يضربها بسببٍ أو بدونه وعصام الذي تزوّجتْه مرغمةً وكلّ رجال المدينة وحتّى نساءها.. خلعتهم جميعًا دون أنْ تحسّ بتأنيب الضّمير هذه المرّة. فتحتْ ذراعيها وكأنّها تريد أن تضمّ البحر كلّه إليها دفعةً واحدة!
واحد..
اثنان ..
ثلاثة..
ثمّ هووب! قفزتْ إلى الماء المتجمّد. انقطعت أنفاسها للحظاتٍ ثمّ شهقتْ كأنّها تنفّستْ بعد أن شارفتْ على النّهاية. وحينما غمر الماء جسمها وشعرها وروحها، بكتْ كثيرًا.. أحسّت لأوّل مرّة أنّها حيّةٌ وأنّها تحسّ بالبرد والماء وأنّ قلبها لا يتّسع للخوف فقط، بل أيضًا للفرح الطّفوليّ الذي حُرِمتْ منه منذ زمنٍ بعيدٍ تكاد لا تذكره.
سبحتْ حياة كقنديل بحرٍ لا يعرف إلّا أن يسبح.. وحينما خرجتْ من الماء كمن اغتسل من كلّ خطاياه، قرّرتْ حياة أن تكون حياةً حقًّا وقررت أن تطلب الطّلاق!
مريم الفارسي
Afanine
مجلة أفانين: هي منصّة إلكترونيّة حرّة، وشاملة، ومتنوّعة، تديرها جمعيّة كتّاب الزيتون والمعهد اللغوي الأمريكي بالدار البيضاء، وتضع على عاتِقها أن تفتحَ نافذةً، للكتّاب والفنّانين في المغرب، نحو آفاق الإبداع. تنشر المجلة أعمالًا أدبية وفنية للكتاب والفنانين الشّباب بالمغرب، بالإضافة إلى مقابلات، وبروفيلات، وفرص، وصور فوتغرافية، وغير ذلك. تروم المجلة تسليط الضّوء على إبداعات الكتاب والفنانين الصّاعدين بالمغرب.
تعبير جميل ورائع، كلمات الحبر أبلغ وأصدق من بوح الشفاه