هلوساتٌ تلفزيونيّةٌ

تمسح بظهر يدها قطرات الماء التي علقت بأطراف شفتيها بعد أن شربت من القنّينة الصّغيرة التي كانت تحملها، وهي تعود لإكمال سيرها. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة..  يا إلهي إنّني بالكاد سأحصل على المرتبة الخامسة في القسم.

هكذا هي أريج، تؤمن بأنّ الزّهور والورود دائمًا ما تساعدها على التّنبؤ بما سيحصل لها مستقبلًا، لكن أحيانًا لا يحصل من ذلك شيءٌ، وهذا ما تعزّي به نفسها عندما تنبّئها ورقات الورود بعكس المرادِ.

ترمي غصن الوردة الذي ظلّ في يدها، وتتابع المشي وهي بجانب أمّها. وتقول: ما كان عليّ أنْ أجازف وأتكهّن رتبتي في القسم. تمسكُ بخنصر أمّها وتحمل عينيها صوب وجهها الممتلئ وهي متأهّبةٌ للسّؤال.

أمّي أين عسايَ كنت لأكون لو أنّك لم تتزوّجي أبي؟ تُجيبها أمّها على عجلٍ بنبرةٍ ضاحكةٍ وهيَ تقطف أوراق “الخُبّيزة” بعد وصولهما إلى الحقل المقصود. وما أدراني أنا كيف لي أنْ أعرفَ الجواب، ربّما كنت ستكونين ما أنت عليه الآن ولكنّك لست كما أنت. تجلس البنت أرضًا وهي تقلّص عيناها كمن يدقّق النّظر لوجهٍ كاذبٍ. ربّما لم تفهم من كلامها شيئًا، ربّما فهمته، لكنّها لم تجد فيه جوابًا.

تضع يمناها على ذقنها وتداعب بيسراها خصلات شعرها البنّية، مراقبةً حركاتٍ تنمّ عن مهارة أمّها في قطع نبات الخبّيزة من جذوره، وشمس الثّانية عشرة تلفح ملابسها فتحوّلها إلى خرقةٍ ساخنةٍ. تسرّ قولًا في نفسها: سأعدّ من عشرة إلى صفر، إنْ لم تنتهِ أمي سأخبرها أنّني سأرجع إلى البيت.

عشرة، تسعة… ثلاثة، اثنان، واحد وصفر، تزفر بصوتٍ مسموعٍ لأمّها لتشعرها بأنّها ملّت الجلوس على الحشائش وهي تحصد الخُبّيزة، لكنّ أذني أمّها كانتا منهمكتين في استراق السّمع إلى أحاديث امرأتين كانتا على بعد مترين منها، فكانت تتوقّف بين فينة وأخرى لعلها تتلقّف الكلمات المهموسة.

أمّي! تعبت من الجلوس وأنا أراقبك منذ ساعةٍ وأنت تفعلين هذا، سأسبقك إلى البيت، تُشير الأمّ بحركةٍ سريعةٍ في اتّجاه الشّرق لتقول لها بها: اذهبي.

تحمل صندلها الإسفنجيّ لتزيح عنه بعودٍ خشبيٍّ ما علق به من ترابٍ ممتزجٍ بماء سقي أشجار الحقل، تحشر رجليها فيه وتغادر الحقل جريًا نحو البيت. لم يكن الحقل بعيدًا عن البيت إلّا بعشرة أمتارٍ، لذا فهي لم تستغرق وقتًا طويلًا للوصول إليه، تنصل عن رجليها الصّندل وتلقي به في إناءٍ بلاستيكيٍّ مملوءٍ بالماء، لتعود فيما بعد لتغسله بعد أن يتخلّل الماء التّراب اليابس الملتصق به.

تدخل المطبخ بعدما سلكت باحة المنزل التي كان يتناهى منها صوت “دورا” وهي تسأل للمرّة العاشرة أين هو “سنقر”؟، تفتح الثّلاجة كما تفعل دائمًا لتتحقّق من أن لا شيء فيها غير خضرٍ تكلّل العين واللّسان مللًا، تُعيد غلق باب الثّلاجة، وتذهب إلى الآنية التي أمرتها أمّها بتسخين ما فيها من بطاطس وجزرٍ وبضع قطع لحمٍ تبقّت من عشاء ليلتهم الفارطة لتكون غداء اليوم، تشعل نارًا خافتةً وتضع عليها قدرَ الغداء.

تتذّكر أنّها سمعت صوت “دورا” آتيًا من التّلفاز، فتتّجه ركضًا نحوه لتتابع الكرتون قبل انتهاء الحلقة، تجلس على كرسيٍّ خشبيٍّ متأبّطةً وسادةً صغيرةً وعيناها على التّلفاز، فتقول “دورا”: عبرنا تّقفز الأرانب. صح، ومررنا بحظيرة “بيني”. صح، وإلى أين نذهب الآن؟

تمسك أريج بريموت التّلفاز، تبحث عن الزرّ الأحمر الذي تتوسّطه دائرةٌ مفرغةٌ بيضاءٌ يقطعها علويًّا خطٌّ عموديٌّ صغيرٌ، كما وصفته لها أمّها عند شراء التّلفاز الجديد أولّ مرّةٍ، هذا هو الزرّ متى أردت إطفاء التّلفاز، ضغطةٌ واحدةٌ تكفي لذلك.

تضغط على الزّر الأحمر، فينقطع صوت موزو ودورا التي لا تنتهي أسئلتها. دائمًا ما كانت أريج تحدّث نفسها: ماذا لو أنّ دورا وموزو يمرّان من جانب تلك الأماكن التي تخطّها لهم الخريطة، يمكن تجاوز التلّ بالمرور عبر السّفح، والحظيرة أيضًا بالمرور من خارجها. وهي في اتّجاه تفقّد قدر الغداء تقول بصوتٍ رقيقٍ: ربّما دورا هي من أولئك الذين يحبّون تعقيدات الحياة كما كانت تحدّثني جدّتي، فيَرون أن المثاليّ لا يصل إليه امرؤٌ إلّا بعرقٍ على الجبين وانقطاعٍ في النّفس، تنظرُ إلى القدر يغلي بما فيه، فينقطع عنها حبل أفكارها وتنسى دورا بتعقيداتها.

تطفئ النّار، تحمل القدر بقطعة قماشٍ، ممسكةً إيّاه من مقبضيه السّاخنين، تفرغه في صحنٍ زجاجيٍّ وتغطّيه بصينيّةٍ ريثما تعود أمّها لتتشاركا الطّعام. تعود أدراجها إلى باحة المنزل وتختار الأرض المزلّجة مقعدًا لجلوسها، فعليها ستستشعر برودةً ترَكها الماء الذي رشّته أمّها صباحًا، وبالكاد ستخفّف عنها القليل من حرارة جسدها، تستلقي فتسترجِع أذنها صوتَ دورا: “إلى أين سنذهب الآن؟” فتتذّكر أنّها لم تغادر قريتها منذ خرجت من بطن أمّها إليها قبل تسع سنواتٍ.

“سنقر لا تسرق!” تدرك أنّ قريتها لا شيء فيها يجذب سارقًا نحوها، فهي لطالما حقّقت بعينيها في الأرض لعلّها تجد درهمًا أو اثنين كما يحصل لها في أحلامها، لكنّ مقلتيها لم تفلحا يومًا في اقتناص ولو نصف درهمٍ على الأرض، ما عدا سدادة قنّينة مغبرّة، وترابًا أحمر يعانق قدميها كلّما مشت عليه مبلّلة الرّجلين.

فكّرت. فحدّثها عقلها، ماذا لو أنّك تعيشين مع الكرتون؟ إنّني كنت لأعيش في بيوتٍ صغيرةٍ منمّقةٍ، وبين جبالٍ وأشجارٍ. كنت سأكون بعيدةً عن البشر، في عالمٍ آخرٍ نُشاهَد بأعين أطفالٍ يحبّون عالمنا. يصمت عقلها، فتسمع أذناها دقّاتٍ خفيفةٍ على الباب الرّئيسيّ للبيت، تعلمُ أنّها أمّها بعدما ركضت نحوه لفتحه. حملت عنها الخبّيزة المرتّبة أوراقها في كيسٍ بلاستيكيٍّ، فرمت بها في دلوٍ مملوءٍ بماءٍ باردٍ، إلى أن يعودا بعد الغداء إلى غسلها وتجفيفها ومن ثمّ تقطيعها.

تضع طبق البطاطا والجزر على طاولةٍ خشبيّةٍ، فتقطّع من خبزةٍ حمراءٍ قطعتين لها ولأمّها الملتصقة عيناها بالتّلفاز، وهي تضع في فمها ثالثَ لقمةٍ من البطاطا، تستقبل مسامعها صوتًا قادمًا من التّلفاز، يحادث به رجلٌ ابنته:

أريج! أتحبّين أن نخرج لنتنزّه قليلًا بجانب البحر.

تنبّه قلبها وعقلها وجسدها فور سماعها لاسمها. تلوك الخبز في فمها ببطءٍ وهي تقول في نفسها:

يا ترى كيف هو البحر؟ وكيف هو ماؤه؟ لم يتسنّى لي يومًا استشعار جسدي بقربه. كم هي محظوظةٌ أريج بهذا الأب. نملك نفس الاسم لكنّنا لا نملك ذات الحياة. أبي لم يفكر يومًا في أن يمسك كفّي ويذهب بي إلى المدينة، لأرى البحر، لأرى البنايات الزّجاجيّة الكبيرة فأحيا ولو للحظات. أعلم أنّك تمثّلين لأنّك تظهرين الآن على التّلفاز، لكن هذا لا يمنع من أن يكون لك أبوان يغدقانك بكلّ وسائل الرّفاه.

تتنهد فتطلق زفرةً متقطّعةً، تحملق حولها تحمل الرّيموت لتبعد عن عينيها صورة أريج، وتصدّ عن مسمعها صوت دورا.

 

وسيم التّاقي.