حين توفيّ والده، لم يترك سوى كوخٍ بائسٍ، آلة خياطةٍ مهترئةٍ، و كثيرًا من الذّكريات التي لم تكن صالحةً لشيء، سوى لنبش الذّاكرة وإحداث مزيدٍ من الألم.
كان لا يزال يقيم حداده وحيدًا، حين اشتدّ به الجوع، وأدرك أنّ لقمة الخبز لن تسير إليه وتطرق بابه، بل يجب عليه أن يقوم ويطاردها، فالعيش بالنّسبة لأمثاله لم يكن يومًا بالأمر الهيّن. شمّر على ذراعيه ذات صباحٍ، وجمع ثياب أبيه الرّثة، ستار النّافذة، جوربه الوحيد، وملابسه الدّاخلية، ثم استنفذ آخر أنفاس آلة الخياطة وباشر العمل.
“هذه القرية البائسة بحاجةٍ لمن يسعدها”
فكّر في قرارة نفسه وهو يدوس القدم الضّاغطة للآلة في حماسٍ.
“سأبيعهم الابتسامات وأوزّع عليهم الأحضان، سأغدو غنيًّا وتنتعش تجارتي، سأصبح مهرّج القرية”
كان يرتدي ثوبه كلّ يومٍ، ويضع قناعه الضّاحك دون أن ينسى الجزء المفضّل، الأنف المُكوّر الأحمر الذي يصدر صوتًا مضحكًا كلّما ضغط عليه، ثمّ يهيم على وجهه بين أزقّة القرية الكابية، يتدحرج، يلعب بالكرات الملوّنة، يُدخل قطعةً نقديّةً من أذنه ويُخرجها من أنفه، يغنّي مع أهازيج الصّباح، يُربّت على رؤوس الأطفال، ويُشاطر العجزة وحدتهم الأبديّة، يسوق درّاجته ذات العجلة الواحدة ويتظاهر بالسّقوطِ. ينفجر الجميع من الضّحك وفرط السّعادة، يعود إلى كوخه ليلًا ويُسقط عنه القناع، يبدأ في النّحيب.
كان مهرّج القرية حزينًا جدًّا، فثلّاجته فارغةٌ، ديون أبيه كثيرةٌ، ووحدته كما لم يتوقّع أحدٌ؛ قاتلةٌ جدًّا.
لكنّ المهرّج كان ماهرًا في التّظاهر بالسّعادة، ومواراة معالمِ حزنه اليوم الموالي، تمامًا كما كان أهل القرية ماهرين في تجاهل نحيبه الذي يشقّ عتمة اللّيل، فهم كانوا بحاجةٍ إليه، والسّعادة التي لم تتعدّ بالنّسبة لهم ترفًا أصبحت حقيقةً بوجوده بينهم، لكنّهم لم يكونوا قادرين على مقايضة ضحكةٍ موجزةٍ ببضع دراهم، فالجوع كان للأسف، يرعبهم أكثر من الحزن نفسه.
هكذا تكاثرت ديونهم، وانقضى رصيد المهرّج من النّكات.
في تلك اللّيلة، حين أعلن المهرّج إفلاسه من كلّ شيءٍ، و أدرك متأخّرًا أنّ تجارة السّعادة ملعونةٌ وكاسدةٌ، عاد إلى بيته وقد فاضت كأسه، ثمّ حمل حبله الذي كان يستعمله للقفزِ وإضحاكِ الأطفال، وعلّقه بسقفِ الكوخ.
صباحَ اليوم الموالي، ضجر القرويّون، واغتموا من فرط الكرب و الفراغ، بحثوا عن مهرّجهم فلم يجدوه، اقتحموا كوخه كوجهةٍ أخيرةٍ، ليبدوَ لهم متدلّيًا من السّقف، يتمايل جسده يمينًا يسارًا، يسارًا يمينًا، وقناعه الضّاحك يغطّي رأسه، كانت تبدو الابتسامة المرتسمة عليه واسعةً، أكثر ممّا يجب. عمّ الصّمت بين صفوف القرويّين للحظاتٍ، يفكّون شيفرة اللّوحة الماثلة أمامهم، ليصيح أحدهم وهو يضحك عاليًا، وقد اغرُورقت عيناه بالدّموع:
“ألم تفهموا بعدُ أيّها النّاس، إنّها حركةٌ بهلوانيةٌ جديدةٌ”
وضحك الجميع، استلقى بعضهم على ظهرهِ، وتعالت قهقهتهم, وعمّت السّعادة من جديد.
حين جرّ طفلٌ صغيرٌ أسدال أمّه مشيرًا إلى أطراف المهرّج الزّرقاء الباردة، نهرَته والدته ولَكَزَته بقوّةٍ، وحين شرَع في البكاء حملته بين ذراعيها تهدهده, وهمست في أذنه مهدّدةً:
“أنظر إلى وجهه الضّاحك، وجهُه الضّاحك فقط! وحين تفعل، لا تنسَ أن تبتسم”.
شيماء نقاش.
Afanine
مجلة أفانين: هي منصّة إلكترونيّة حرّة، وشاملة، ومتنوّعة، تديرها جمعيّة كتّاب الزيتون والمعهد اللغوي الأمريكي بالدار البيضاء، وتضع على عاتِقها أن تفتحَ نافذةً، للكتّاب والفنّانين في المغرب، نحو آفاق الإبداع. تنشر المجلة أعمالًا أدبية وفنية للكتاب والفنانين الشّباب بالمغرب، بالإضافة إلى مقابلات، وبروفيلات، وفرص، وصور فوتغرافية، وغير ذلك. تروم المجلة تسليط الضّوء على إبداعات الكتاب والفنانين الصّاعدين بالمغرب.